المجنونة المحتشمة

اجنادين نيوز / ANN
كلثوم الجوراني
يسحب يدها بضجر
-قومي متى تموتين كي ندفن عارنا ، بهذه العبارة أخذ يجرها إلى البيت .
اعتدت صباحا أن أرى تلك العجوز بثيابها الرثة جالسة في باب أحد البيوت كل يوم وأنا أمر من الزقاق الضيق إلى مكان عملي ، كانت تجلس صامتة وأحيانا أراها تكلم نفسها بصوت خافت لا يسمعه أحد .
صبيحة المجنونة المحتشمة ، يقال إنها فقدت عقلها ولكنها لم تفقد حشمتها فهي ورغم تصرفاتها اللاعقلانية تحرص أشد الحرص على حشمتها وخاصة العباءة العربية
التي لم تفارقها ، كان أمرها مريبا فهي تبدو نصف مجنونة ونصف أمراة قوية يبدو أن الجنون تسلل إلى عقلها لكثرة ما رأته من الصدمات .
جمعتني الصدف مع إحدى جاراتها ودار حديث بيننا ثم أخذنا الحديث عن المرأة في مجتمعنا وما تعانيه فتذكرت صبيحة وسألتها ما قصة صبيحة ؟
أطرقت متنهدة وهي تشبك أصابع يدها وتعصرهما كأنها تريد أن تحتجز حسرة حارقة في صدرها ثم حدقت في وجهي لتقول لو تعلمين من هي صبيحة ؟
كلامها أثار فضولي أكثر ونحيت الوقار جانبا للحظة قافزة بسؤالي من هي صبيحة وما قصتها ؟
فكت المرأة تشابك أصابعها وأخذت تعض طرف إبهام يدها ثم مررت كفها على شفتيها كسدٍ يزجر سيل الكلمات ولكن يبدو أن قصة صبيحة كالاعصار المدمر .
قالت لي تلك الجارة أن صبيحة كانت الفتاة الوحيدة مع أخوتها الاولاد الأربعة وكانت هي الأكبر منهم والمدللة كونها البنت الوحيدة ، كانت جميلة جدا وكان أحد أولاد عمها يعشقها حد الجنون ولكن لا رغبة لها فيه وبحكم الأعراف فهي لا يحق لها الزواج إلا إذا وافق ابن عمها هذا كبرت وكبروا أخوتها الصغار وأصبحوا شباناً وتزوجوا وانجبوا وكانت صبيحة تربي أبناءهم لعلهم يعوضونها الحرمان الذي تعانيه جراء منعها من الزواج من قبل ابن عمها المتعجرف
مات الأب ولم تتأخر أمها عن اللحاق به ، رغم الحزن العميق الذي أصاب صبيحة إلا إنها كانت تأمل إن أخوتها سيكونون العوض عن أبويها إلا إنهم خيبوا آمالها ولم تمر فترة وجيزة حتى تقاسموا الإرث بينهم هم الأربعة .
كان نصيب صبيحة الإجبار على التنازل عن حقها وقد وعدها أكبرهم أن تقيم عنده معززة مكرمة فتنازلت ولم تنبس ببنت شفة.
سنين طوال وصبيحة تحمل الصبية وتعتني بهم وتقوم بأعمال البيت وكأنها خادمة حتى بلغت الخمسين من عمرها وأخيرا طرق السعد بابها فقد أتى من تحلم به رجل في العقد السادس من عمره ذو جاه وجلال ووسامة ، متمكن ماديا أرسل إليها أنه يطلبها للزواج فوافقت وما هي إلا فترة وجيزة حتى انتقلت صبيحة إلى بيت عبد الحق زوجها الستيني وعاشت أيام تشبه الأحلام بل أجمل كان يغرقها غزلا ودلالا وكانت تقابله بالود والاحترام فعاشا سنتين من الحب والاحترام ولكن القدر يأبى أن تستمر سعادة صبيحة فرحل عبد الحق تاركا إياها حزينة مولولة تكاد تفقد عقلها من شدة الحزن عليه بعد أشهر من وفاته حضر أبناء عبد الحق فطالبوا بحقهم من الإرث وتبين إنه كتب في وصيته أن ما يتركه إرثا لولديه وابنته فقط وحرم صبيحة من الإرث أيضا .
عادت صبيحة تجر أذيال خيبتها إلى بيت أخيها الذي وعدها سابقا أن تقيم عنده مقابل تنازلها عن الإرث ولكن المؤسف أنهم قابلوها وكأنها ضيف ثقيل ، زوجة أخيها تحرضه دائما وتحرض أولادها على عمتهم التي تولت تربيتهم حتى أصبحت وجبات الطعام ممزوجة بالكلام السام من زوجة الأخ وأولادها .
وكل حركة لدى صبيحة مرصودة مقصودة إلى أن جنت فأصبحت لا تكلم أحدا ولا تعرف أحدا وصارت حديقة المنزل مأواها وكأنها ليست بشر فأهل البيت يستقذرونها ولا يسمحون لها بالدخول إلى البيت أبدا .
ما لم أسمعه من جارة صبيحة وسمعته بعد وفاتها أن صبيحة كانت إنسانة مثقفة جدا ولكن أهلها وأعرافهم لم يسمحوا لها بإكمال دراستها ولم يسمحوا لها بالعمل خارج المنزل كموظفة ، قبل أيام رحلت صبيحة عن عالم لا ينصف المرأة عن عالم يرى أن المرأة نصف إنسان لا يحق لها ما يحق للرجل ، رحلت صبيحة وهي تسدل الستار على قصة حزينة تتكرر مئات المرات في مجتمعنا ولكل ظالم تبرير .




