قراءة في الأبعاد السياسية والاقتصادية الراهنة : دور الصين في تحقيق السلام بين الدول

أجنادين نيوز / ANN
الدكتورة خديجة عللي عضو الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل
متخصصة في العلاقات العربية الصينية
المملكة المغربية الشريفة

الفصل الأول: تطور السياسة الخارجية الصينية
تمهيد
1- اتسمت السياسة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية، منذ تأسيسها عام 1949، بالحذر والانكفاء على الداخل، مدفوعة بإرث تاريخي من التدخلات الأجنبية، ورغبة في الحفاظ على سيادتها واستقلالها. غير أن العقدين الأخيرين شهدا تحولًا نوعيًا في توجهات بكين، من سياسة “عدم التدخل” إلى “الدبلوماسية النشطة”، التي تستهدف تعزيز مكانة الصين كقوة دولية مؤثرة. هذا الفصل يحلل تطور السياسة الخارجية الصينية، من حيث المبادئ، والسياقات التاريخية، وأهداف المرحلة الحالية، مع التركيز على الصعود الصيني في ظل قيادة الرئيس شي جين بينغ.
أولًا: المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية الصينية
المبادئ الخمسة للتعايش السلمي
تُعد “المبادئ الخمسة للتعايش السلمي” (1954) حجر الزاوية في السياسة الخارجية الصينية. وقد أُعلنت لأول مرة في اتفاق بين الصين والهند، ثم تبنتها بكين رسميًا كأساس لتعاملها مع العالم. تشمل هذه المبادئ:
* الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الأراضي.
* عدم الاعتداء المتبادل.
* عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
* المساواة والمنفعة المتبادلة.
* التعايش السلمي.

تاريخيًا، مكّنت هذه المبادئ الصين من الحفاظ على علاقات مستقرة مع الدول النامية، خاصة في آسيا وأفريقيا، دون أن تكون طرفًا مباشرًا في نزاعات أو تحالفات عسكرية.
2. مبدأ “عدم التدخل” كاستراتيجية طويلة الأمد
كان “عدم التدخل” بمثابة فلسفة دبلوماسية موجهة لتجنّب التورط في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، مقابل التركيز على النمو الاقتصادي الداخلي. وقد تجلى ذلك بوضوح في موقف الصين من الأزمات الدولية، مثل النزاعات في الشرق الأوسط، أو الحرب في يوغوسلافيا، أو التدخلات الغربية في العراق وليبيا.

ثانيًا: التحول في السياسة الخارجية منذ مطلع الألفية
1. الدوافع وراء التغيير
جاءت التحولات نتيجة تفاعل عدد من العوامل، أبرزها:

* صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية (المرتبة الثانية عالميًا في الناتج المحلي الإجمالي).
* اتساع المصالح الخارجية الصينية (الطاقة، الاستثمار، التجارة).
* الرغبة في تشكيل نظام عالمي أكثر تعددية وأقل اعتمادًا على الغرب.

2. التحول تحت قيادة شي جين بينغ
مع تولي شي جين بينغ الرئاسة عام 2012، بدأت الصين تُعبّر بوضوح عن طموحاتها العالمية. فطرح “حلم الصين” كمفهوم استراتيجي، متبوعًا بإطلاق مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013، التي تمثل الرؤية الصينية لإعادة هيكلة النظام العالمي عبر أدوات اقتصادية وتجارية، لكنها أيضًا تحمل أبعادًا سياسية وأمنية ضمنية.

ضمن هذا الإطار، بدأت الصين:
* تعزّز مشاركتها في المنظمات الإقليمية والدولية.
* تستخدم أدوات القوة الناعمة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
* تعرض نفسها كوسيط “محايد” في النزاعات الدولية، مستفيدة من ابتعادها عن الإرث الاستعماري الغربي.
ثالثًا: الأطر المؤسسية والدبلوماسية الجديدة

1- مبادرة الحزام والطريق كذراع للسياسة الخارجية

تشكل مبادرة “الحزام والطريق” (BRI) أحد أعمدة السياسة الخارجية الصينية الجديدة. فهي ليست فقط مشروعًا اقتصاديًا لتطوير البنية التحتية في أكثر من 70 دولة، بل أيضًا أداة لتعميق العلاقات السياسية، وتوسيع النفوذ الجيوسياسي.
ضمن هذا السياق، تستغل الصين أدوات التمويل والاستثمار لتقوية الروابط مع الدول المستفيدة، وبناء شرعيتها كقوة غير استعمارية تسعى لتحقيق “التنمية المشتركة”، الأمر الذي يجعلها طرفًا مقبولًا في الوساطات الدولية مقارنة بالقوى الغربية.
2. صعود الدبلوماسية المتعددة الأطراف

عززت الصين دورها في عدد من المؤسسات الدولية (مجموعة البريكس، منظمة شنغهاي للتعاون، البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية)، وبدأت تطور نمطًا جديدًا من الدبلوماسية قائمًا على:
* الوساطات المتعددة الأطراف.
* تنظيم منتديات الحوار جنوب–جنوب.
* دعم الاستقرار الأمني في الدول الإفريقية والآسيوية من خلال قوات حفظ السلام.

رابعًا: التحديات الملازمة للتحول

رغم هذا الانفتاح الدبلوماسي، تواجه السياسة الخارجية الصينية عددًا من التحديات:
– الشكوك الغربية* في نوايا بكين، واتهامها بـ”الدبلوماسية الاقتصادية العدوانية”.
– محدودية الخبرة التاريخية* في الوساطات الدولية، مقارنة بالقوى الغربية.
– التوترات الإقليمية*، خاصة في بحر الصين الجنوبي وتايوان، ما يثير تساؤلات حول حيادية الصين في النزاعات.
خاتمة الفصل

يعكس تطور السياسة الخارجية الصينية انتقالًا مدروسًا من العزلة النسبية إلى الانخراط العالمي النشط. فالصين اليوم تسعى إلى لعب دور أكبر في صياغة قواعد النظام الدولي، مستندة إلى قوتها الاقتصادية ومبادراتها الدبلوماسية متعددة الأبعاد. وقد مكّنها هذا التحول من لعب أدوار وساطة متزايدة، الأمر الذي سيكون موضوعًا للفصول القادمة، حيث سنحلل أدوات الصين في الوساطة، ونستعرض دراسات حالة تُبيّن مدى نجاحها، وتحدياتها كوسيط في نزاعات معقدة ومتعددة الأطراف.

الفصل الثاني: أدوات الصين في الوساطة الدولية
تمهيد
مع تزايد انخراط الصين في القضايا الدولية، بدأت بكين تعتمد على مجموعة من الأدوات الناعمة والصلبة لتعزيز موقعها كوسيط دولي موثوق. لا تقتصر هذه الأدوات على البنية الدبلوماسية الرسمية، بل تشمل أيضًا أدوات القوة الناعمة، والدبلوماسية الاقتصادية، والمنصات متعددة الأطراف، وحتى الخطاب السياسي. هذا الفصل يحلل أبرز أدوات الصين في مجال الوساطة الدولية، ويُظهر كيف تُمزج هذه الأدوات في خدمة أهداف استراتيجية، من دون التخلي عن مبدأ “عدم التدخل” الذي لطالما شكّل ركيزة في السياسة الصينية.

أولًا: القوة الناعمة الصينية في خدمة الوساطة
1. الإعلام والدبلوماسية الثقافية
تستخدم الصين أدوات الإعلام الدولي (مثل CGTN، China Daily) والخطاب الدبلوماسي الهادئ لتقديم نفسها كقوة غير استعمارية ومحايدة، بخلاف القوى الغربية. كما تعزز حضورها الثقافي عبر:
معاهد كونفوشيوس المنتشرة في أكثر من 160 دولة.
المنح التعليمية والتبادلات الأكاديمية.
استضافة المؤتمرات والمنتديات الثقافية والدينية.

تهدف هذه السياسات إلى خلق “رأس مال رمزي” يمكن توظيفه في الوساطات، من خلال صورة الدولة “الودودة” غير المرتبطة بإرث استعماري.

2- 2. الخطاب السياسي المحايد
تتفادى الصين في مواقفها الرسمية استخدام لغة الإدانة أو التحيّز، وتفضل الدعوة إلى “الحوار” و”حل النزاعات سلميًا”، ما يمنحها شرعية كوسيط في ملفات حساسة (مثل أزمة السودان أو المفاوضات النووية الإيرانية).
ثانيًا: الدبلوماسية الاقتصادية كأداة غير مباشرة للوساطة
1. التمويل والبنية التحتية مقابل النفوذ
من خلال مبادرة “الحزام والطريق” والمساعدات التنموية، تمنح الصين تمويلًا سخيًا لدول آسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية، مما يفتح لها قنوات نفوذ سياسي غير صدامي. في المقابل، تستغل هذه المكانة لعرض دورها كـ “ضامن استقرار” أو وسيط بين أطراف متخاصمة.

2. سياسة “الربح المشترك” كخطاب موازٍ للوساطة
بخلاف الشروط السياسية للمساعدات الغربية (مثل الديمقراطية أو حقوق الإنسان)، تطرح الصين نفسها كبديل تنموي مرن، ما يجعلها أكثر قبولًا لدى أنظمة سياسية غير ليبرالية. هذا يعزز فرصها في أداء أدوار وساطة دون إثارة حساسيات داخلية.

ثالثًا: المنصات متعددة الأطراف والمنظمات الدولية
1. منظمة شنغهاي للتعاون
تستخدم الصين المنظمة كمنصة للحوار الأمني والاقتصادي، وقد لعبت أدوارًا غير مباشرة في احتواء التوترات بين دول آسيا الوسطى، وبين باكستان والهند. رغم أن المنظمة ليست آلية وساطة رسمية، فإنها تُستخدم كأداة لتقريب وجهات النظر تحت مظلة “التعاون الإقليمي”.

2. مجموعة البريكس والمنتديات جنوب–جنوب
تعزز هذه المنصات من شرعية الصين كقائد بديل عن الغرب في التفاعلات الدولية. وفي حالات مثل النزاعات في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، تكون الصين جزءًا من جهد جماعي غير غربي، مما يضفي طابعًا جماعيًا على الوساطة الصينية.
رابعًا: الحياد الاستراتيجي كوسيلة للوساطة
1. الابتعاد عن التحالفات العسكرية
لا تنخرط الصين في تحالفات دفاعية رسمية (باستثناء بعض التفاهمات مع روسيا)، وهو ما يجعلها “أكثر قبولًا” لدى أطراف النزاعات، خاصة في العالم الإسلامي أو دول الجنوب العالمي.

2. حضور غير مهيمن في مناطق النزاع
تتجنب الصين التورط العسكري المباشر (كما تفعل الولايات المتحدة أو روسيا)، لكنها تحضر بشكل ناعم من خلال:
قوات حفظ السلام الأممية (كما في جنوب السودان ولبنان)؛
إرسال مبعوثين خاصين (كما في أزمة الشرق الأوسط أو الأزمة الأوكرانية).
خامسًا: الوساطة عبر “الدبلوماسية المبعوثة”
1. مبعوثو الصين الخاصون
تعتمد الصين على “مبعوثين خاصين” في الأزمات المعقدة، وهم عادة دبلوماسيون رفيعو المستوى، يتمتعون بخبرة إقليمية، مثل:
-المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط.
– المبعوث الخاص إلى القرن الإفريقي.
– المبعوث الخاص إلى الأزمة الأوكرانية.
تقوم أدوارهم على إجراء محادثات مباشرة مع الأطراف، دون فرض شروط، مما يمنحهم مساحة مناورة أوسع.
خاتمة الفصل
تعتمد الصين في وساطاتها الدولية على مزيج من الأدوات الناعمة (الثقافة، الإعلام، الحياد السياسي)، والاقتصادية (التمويل والمبادرات التنموية)، والمؤسسية (المنظمات الدولية). ورغم غياب تجربة تاريخية عريقة في الوساطات المعقدة، إلا أن بكين تنتهج مقاربة تدريجية، تراكمية، لا تقوم على فرض النفوذ، بل على بناء شبكات من المصالح والشرعية الرمزية.

الفصل الثالث دراسة حالة بين إيران فلسطين واسرائيل

تمهيد
تُعدّ قضايا الشرق الأوسط، وبخاصة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي وتوترات إيران مع الأطراف الإقليمية والدولية، من أكثر الملفات تعقيدًا وحساسية على الساحة الدولية. دخلت الصين، ضمن توجهها المتصاعد كوسيط دولي، هذا الملف عبر أدوات دبلوماسية متعددة، مستغلة مكانتها الاقتصادية والسياسية الجديدة، وحرصها على تقديم نفسها كقوة محايدة قادرة على بناء الجسور بين الأطراف المتخاصمة. يركز هذا الفصل على تحليل دور الصين في الوساطة بين إيران وفلسطين وإسرائيل، مع إبراز أدواتها، تحدياتها، وفرص نجاحها.

أولًا: السياق الاستراتيجي للصين في الشرق الأوسط
شهدت العلاقات الصينية–الشرق أوسطية توسعًا ملحوظًا خلال العقدين الماضيين، مع تصاعد اعتماد الصين على الطاقة من الخليج والشرق الأوسط، وتزايد مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. يزداد تعقيد هذه العلاقات بسبب النزاعات المستمرة، خصوصًا بين إسرائيل وفلسطين، والتوترات بين إيران ودول المنطقة، حيث تتداخل الأبعاد السياسية، الدينية، والأمنية.
رغم ذلك، تتجنب الصين الانخراط المباشر في النزاعات المسلحة أو السياسية، معتمدة على مبدأ الحياد والدبلوماسية غير التدخلية، ساعية لخلق دور وساطة متوازن يراعي مصالح جميع الأطراف.
ثانيًا: أدوات الصين في الوساطة بالملف الفلسطيني–الإسرائيلي
1. القوة الناعمة والدبلوماسية الثقافية
تسعى الصين إلى تقديم نفسها كداعم للقضية الفلسطينية عبر دعم المؤسسات التعليمية، وتقديم مساعدات تنموية للضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى دعم مالي للفلسطينيين من خلال الأمم المتحدة.
تستخدم بكين هذه القنوات لبناء صورة إيجابية في العالم العربي، تؤكد على احترامها لحقوق الشعب الفلسطيني، دون أن تثير خلافًا مباشرًا مع إسرائيل.
2. الحياد الاستراتيجي
تحافظ الصين على علاقات متوازنة مع إسرائيل، خاصة في مجال التكنولوجيا والاستثمار، دون التخلي عن دعمها التاريخي للفلسطينيين. هذا التوازن الدقيق يساعدها في إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع الجانبين، ويمنحها مصداقية كوسيط محتمل.
3. المنصات متعددة الأطراف
تستغل الصين منبر الأمم المتحدة، ومنتديات التعاون الصيني–العربي، ومنظمة التعاون الإسلامي، لتعزيز مبادرات سلام هادئة، تشجع على الحوار بدل التصعيد. كما تشارك في دعم المفاوضات غير المباشرة بين الأطراف، بما في ذلك جهود تحسين الوضع الإنساني.
ثالثًا: الوساطة الصينية بين إيران والدول الإقليمية في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي
1. دور إيران في الصراع
إيران تُعتبر لاعبًا محوريًا في دعم قوى المقاومة الفلسطينية، مثل حركة حماس، وفي الوقت نفسه تشكل تحديًا لإسرائيل ودول الخليج. تدرك الصين حساسية هذا الملف، وتسعى للمحافظة على علاقات جيدة مع طهران، في الوقت ذاته تجنبها الدخول في مواجهات إقليمية مباشرة.
2. استراتيجية الصين في التعامل مع إيران
تتبنى بكين سياسة تشجيع الحوار والتهدئة، وتدعو إلى حل النزاعات عبر القنوات الدبلوماسية، مع التأكيد على أهمية استقرار المنطقة لضمان استمرارية تدفق الطاقة والاستثمارات.
هذا يشمل تقديم نفسها كمنصة للحوار غير المباشر بين طهران والجهات الإقليمية والدولية، عبر الوساطات المتعددة الأطراف.
رابعًا: التحديات التي تواجه الوساطة الصينية في هذا الملف
التشابك الإقليمي والدولي: تعددية الأطراف وتداخل مصالح القوى العالمية (الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي) يخلق بيئة معقدة تتطلب حنكة دبلوماسية عالية.

الاختلافات الأيديولوجية والسياسية العميقة: الخلافات بين إيران وإسرائيل، وبين إسرائيل والفلسطينيين، تتجاوز في كثير من الأحيان الحلول الدبلوماسية التقليدية.

القدرة المحدودة على الضغط العسكري أو السياسي: عدم امتلاك الصين أدوات قوة صلبة في الشرق الأوسط يحد من قدرتها على فرض حلول أو تأمين التزام الأطراف.
خامسًا: تقييم وإمكانات نجاح الوساطة الصينية
تُظهر الوساطة الصينية في هذا الملف بداية مشجعة على صعيد بناء الثقة والتموضع كطرف محايد، لكنها لا تزال تواجه قيودًا هيكلية كبيرة، أهمها عدم تقليدية دورها، وضعف قدراتها على التأثير المباشر في تطورات الأزمات، مقارنة بالقوى التقليدية.
ومع ذلك، قد يكون امتلاك الصين لشبكة علاقات اقتصادية وثقافية واسعة، إضافة إلى تبنيها مبدأ عدم التدخل والحياد، نقاط قوة مميزة تسمح لها بالاستمرار في تعزيز دورها في المساعي الدبلوماسية، لا سيما في إطار مبادرات متعددة الأطراف وأدوار داعمة غير مباشرة.

خاتمة الفصل
تعكس دراسة حالة الوساطة الصينية في ملف إيران–فلسطين–إسرائيل الطابع الهجين لدبلوماسية بكين، التي تجمع بين الدبلوماسية الاقتصادية، القوة الناعمة، والحياد الاستراتيجي. رغم محدودية تأثيرها المباشر على الأرض، فإن مساعيها تشكل إسهامًا مهمًا في إعادة بناء قنوات الحوار، مما يؤشر إلى نضوج السياسة الخارجية الصينية في منطقة الشرق الأوسط. يبقى التحدي الأكبر هو مدى قدرتها على الموازنة بين مصالح الأطراف المختلفة، والمرونة في التعامل مع التحولات السريعة في ديناميات الصراع.

الفصل الرابع تقييم استراتيجية “المبادرة الأمنية العالمية” وتحديات تطبيقها في سياق عالمي متقلب.

تمهيد
تُعتبر “المبادرة الأمنية العالمية” (Global Security Initiative – GSI) التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2022، محورًا جديدًا في السياسة الخارجية الصينية، تهدف إلى تقديم نموذج بديل للأمن الدولي يقوم على مبادئ السيادة، وعدم التدخل، والحوار الشامل. يتناول هذا الفصل تحليل أهداف الاستراتيجية، أدوات تطبيقها، والتحديات التي تواجهها في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة والتنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى.

أولًا: أهداف واستراتيجية “المبادرة الأمنية العالمية”
1. تعزيز مفهوم الأمن الشامل والمشترك
تسعى المبادرة إلى تجاوز النماذج التقليدية القائمة على الهيمنة والتدخل العسكري، عبر التأكيد على:

الأمن المشترك الذي يشمل جميع الدول بلا استثناء؛
احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية؛
تعزيز الحوار والتفاوض كوسيلة لحل النزاعات.

2. مواجهة التحديات الأمنية الجديدة
تشمل أهداف المبادرة التصدي لقضايا مثل الإرهاب، الأمن السيبراني، الأمن البيئي، وانتشار الأسلحة النووية، من خلال تعاون دولي موسع.
ثانيًا: أدوات تطبيق المبادرة الأمنية
1. الدبلوماسية متعددة الأطراف
تستخدم الصين أدوات التعاون داخل الأمم المتحدة، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، لتعزيز الأطر الأمنية والسياسية التي تضمن مصالحها وتراعي مبادئ المبادرة .
2. مبادرات الحوار الإقليمي
أطلقت الصين سلسلة من المنتديات الأمنية الإقليمية التي تهدف إلى بناء الثقة وتقليل التوترات في مناطق النزاعات مثل الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، وبحر الصين الجنوبي.
3. القوة الناعمة والاقتصادية
تُوظف المبادرة استثمارات ضخمة في البنية التحتية والمشاريع التنموية ضمن “الحزام والطريق”، بهدف تحقيق استقرار اقتصادي ينعكس إيجابيًا على الأمن الإقليمي.
ثالثًا: التحديات والقيود في تطبيق المبادرة
1. التنافس مع القوى الكبرى
تواجه المبادرة مقاومة من الولايات المتحدة والغرب، الذين يراها محاولة لتقويض النفوذ الغربي في النظام الدولي، مما يخلق جبهات من الشكوك والتوترات الاستراتيجية.
2. الاختلافات الإقليمية والتنوع الجغرافي
الظروف الأمنية تختلف جذريًا بين مناطق العالم، مما يصعب صياغة نموذج أمني شامل وموحد يتلاءم مع كل السياقات المتنوعة.

3. محدودية القدرة العسكرية الصينية خارج حدودها
رغم الصعود العسكري، لا تمتلك الصين حتى الآن قوة انتشار عالمي واسعة تمكنها من فرض الأمن بشكل مباشر، مقارنة بالولايات المتحدة.

4. الشكوك حول نوايا الصين
تثير المبادرة تساؤلات بشأن مدى انفتاح الصين الحقيقية على التعددية والتشاركية في النظام الدولي، خصوصًا في ظل سجلها في قضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير.

رابعًا: فرص تعزيز المبادرة الأمنية العالمية
1. النجاحات الأولية في الوساطة والدبلوماسية
تحقيق نتائج إيجابية في وساطات مثل ملف إيران والسعودية يفتح أبوابًا لتعزيز دور المبادرة على أرض الواقع.
2. التعاون مع دول الجنوب
يمكن للمبادرة أن تلعب دورًا حيويًا في الدول النامية التي تبحث عن بدائل للنموذج الغربي، خصوصًا في آسيا، أفريقيا، وأمريكا اللاتينية.

3. التركيز على قضايا الأمن غير التقليدية
مثل مكافحة الإرهاب، الأمن السيبراني، وتغير المناخ، حيث تملك الصين خبرات تقنية واقتصادية تمكنها من تقديم حلول عملية.
خامسًا: تقييم عام واستشراف المستقبل
تُبرز “المبادرة الأمنية العالمية” طموح الصين في إحداث تغيير جوهري في قواعد النظام الدولي الأمني. إلا أن تطبيقها يواجه عقبات جوهرية تتطلب مرونة في السياسات، تعزيز الثقة الدولية، وبناء شراكات استراتيجية واسعة. نجاح المبادرة يعتمد على قدرة الصين على التكيف مع متطلبات النظام الدولي المعقد، واحترام مصالح وتطلعات جميع الدول الفاعلة.
خاتمة الفصل
تشكل “المبادرة الأمنية العالمية” خطوة استراتيجية تضع الصين في قلب الجهود الدولية نحو نموذج أمني متعدد الأقطاب، قائم على الحوار والتعاون. ورغم التحديات، فإن استمرار الصين في تطوير أدواتها الدبلوماسية، الاقتصادية، والسياسية يعزز فرصها في لعب دور مؤثر في صياغة مستقبل الأمن العالمي، بما يعكس رؤيتها الخاصة للسلام والتنمية المستدامة.

الخاتمة العامة
تُبرز دراسة تطور السياسة الخارجية الصينية والوساطة الدولية تحولًا جذريًا في موقع الصين على الساحة العالمية، من دولة منكفئة على ذاتها إلى لاعب رئيسي يسعى لإعادة تشكيل النظام الدولي وفقًا لمفاهيم “الاحترام المتبادل”، “الحياد”، و”الأمن المشترك”. فقد استندت الصين إلى مزيج مدروس من القوة الناعمة، والدبلوماسية الاقتصادية، والحضور المتوازن في المحافل الدولية لتعزيز شرعيتها كوسيط غير غربي، لا يسعى إلى فرض حلول، بل إلى خلق بيئات حوارية بديلة عن الاستقطاب والصدام.

كما أظهرت الفصول مدى تدرّج الصين في بناء دورها كوسيط، من خلال الانطلاق من مبادئ تاريخية ثابتة، نحو تجريب أدوات متعددة في بيئات معقدة كمنطقة الشرق الأوسط، وصولًا إلى تبني استراتيجيات شاملة كالمبادرة الأمنية العالمية. ورغم التحديات البنيوية والسياسية التي لا تزال تحدّ من نفوذها في بعض الملفات، فإن ما يميز المقاربة الصينية هو استنادها إلى بناء علاقات طويلة الأمد قائمة على المصالح المتبادلة والشرعية الرمزية، وليس على الإكراه أو التبعية.

وفي ظل عالم متعدد الأقطاب، تبدو الصين في طريقها لترسيخ نموذج وساطة جديد، قد لا يكون بديلاً فوريًا للنموذج الغربي، لكنه يُمثّل خيارًا متمايزًا للدول الباحثة عن حلول غير تقليدية. يبقى مستقبل هذا الدور مرهونًا بقدرة الصين على التوفيق بين طموحاتها العالمية والتوازنات الإقليمية الحساسة، مع تطوير أدوات مرنة وفعالة للتعامل مع عالم سريع التغير.

لائحة المراجع

القحطاني، محمد. (2021). السياسة الخارجية الصينية في الشرق الأوسط: الاستراتيجية والتفاعل. سياسة الشرق الأوسط، 28(3)، 120–135. https://doi.org/10.1111/mepo.12518](https://doi.org/10.1111/mepo.12518)

كالهان، ويليام أ. (2016). أحلام الصين: 20 رؤية للمستقبل. مطبعة جامعة أكسفورد.

دوشي، ريان. (2021). اللعبة الطويلة: الاستراتيجية الكبرى للصين لاستبدال النظام الأمريكي. مطبعة جامعة أكسفورد.

فولتون، جون. (2019). دور الصين المتغير في الشرق الأوسط. المجلس الأطلسي. استُرجع من [https://www.atlanticcouncil.org/in-depth-research-reports/report/chinas-changing-role-in-the-middle-east/](https://www.atlanticcouncil.org/in-depth-research-reports/report/chinas-changing-role-in-the-middle-east/)

وزارة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية. (2022). موقف الصين من التسوية السياسية لأزمة أوكرانيا. استُرجع من [https://www.fmprc.gov.cn](https://www.fmprc.gov.cn)

رولاند، ناثان. (2017). قرن أوراسيا الصيني؟ الأبعاد السياسية والاستراتيجية لمبادرة الحزام والطريق. المكتب الوطني للبحوث الآسيوية.

شي، يانغ. (2023). المبادرة الأمنية العالمية: رؤية جديدة للأمن الدولي. الدراسات الصينية الدولية، 36(2)، 45–58.
سمول، أندرو. (2020). محور الصين–باكستان: الجغرافيا السياسية الجديدة في آسيا. مطبعة جامعة أكسفورد.

وانغ، جيان. (2018). دبلوماسية الصين في العصر الجديد: التحديات والآفاق. المجلة الصينية للسياسة الدولية، 11(1)، 1–28. https://doi.org/10.1093/cjip/poy001](https://doi.org/10.1093/cjip/poy001)

تشاو، شياو. (2013). دبلوماسية الصين واستراتيجية القوة الناعمة. المراجعة الصينية، 13(1)، 123–156. https://www.jstor.org/stable/23462134](https://www.jstor.org/stable/23462134)

تشو، لين. (2022). دبلوماسية الوساطة الصينية: من المبدأ إلى التطبيق. مجلة الصين المعاصرة، 31(136)، 501–516. https://doi.org/10.1080/10670564.2022.2038183](https://doi.org/10.1080/10670564.2022.2038183

زر الذهاب إلى الأعلى