حين يصبح الانضباط إصلاحًا: قراءة في التجربة الصينية لضبط الأداء الإداري

أجنادين نيوز / ANN

د. عائده المصري، باحثة وكاتبة إعلامية متخصصة في الحوكمة العالمية والاقتصاد السياسي، بخبرة في إدارة النزاعات وتعزيز مرونة سلاسل التوريد. عضو الاتحاد الدولي للصحفيين الدوليين/كتاب العرب اصدقاء وحلفاء الصين.

في عالمٍ تتزايد فيه هشاشة الحوكمة، من اضطرابات النظام المصرفي في الاقتصادات المتقدمة إلى التعثرات التنظيمية في الأسواق الناشئة، لم يعد الانضباط الإداري مسألة داخلية تخص البيروقراطية فحسب. لقد أصبح عنصرًا أساسيًا في قدرة الدول على الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، وضمان كفاءة المؤسسات، وإدارة المخاطر التي تتولد عن غموض المسؤوليات وتداخل الصلاحيات. وبينما تتعامل حكومات كثيرة مع هذه الإشكالات كأزمات طارئة تُعالَج بعد وقوعها، اختارت الصين طريقًا مختلفًا: تحويل الانضباط إلى منهج إصلاحٍ وقائي مدمج في نسيج عملية صنع القرار.
يعرض كتاب «ماذا وكيف يفكر القائد الصيني» هذا التحول بوصفه امتدادًا لفلسفة شي جينبينغ في الإدارة، حيث يُعاد تعريف الانضباط بعيدًا عن صورته التقليدية كأداة ضبط أو عقاب. فهو، في جوهره، منظومة للاتساق المؤسسي؛ إطارٌ يضمن أن تتحرك المستويات الحكومية كافة وفق منطقٍ موحد، وأن تتقلص الفجوات التي يتسلل منها الفساد، غموض القرار، وتضارب المصالح. وكما يرد في الكتاب، «من دون الانضباط يضعف الحزب، ومن دون النزاهة تضيع الدولة» — وهي عبارة تلخص رؤية ترى في الانضباط شرطًا لبقاء النظام الإداري لا حدًّا لحريته.
وتتجلى فعالية هذا المنهج حين نقرأه عبر عدسة إدارة النزاعات داخل المؤسسات. فالنزاعات لا تنشأ غالبًا من اختلاف الآراء، بل من غياب المعايير، أو تضارب الصلاحيات، أو انعدام المساءلة الفعلية. وعندما يصبح الانضباط بنيةً واضحة تُحدّد من خلالها الأدوار وآليات المتابعة والتصحيح، تتحول المؤسسة من بيئة قابلة للاحتكاك إلى بيئة قادرٍة على امتصاص الخلل والتعلّم دون تعطّل. تظهر التجربة الصينية أن الردع وحده لا يمنع النزاع؛ ما يمنعه فعلًا هو التصميم الإداري الذي يجعل الأخطاء أقل احتمالًا، ويجعل معالجتها جزءًا من الدورة الطبيعية للعمل.
هذا التحول هو ما يفسّر التوسع في حملات مكافحة الفساد، ليس بوصفها أدوات عقاب، بل كجزء من منظومة التحصين المؤسسي التي تمنع تشكّل شبكات نفوذ تعيق الأداء. كما تبرز الصين هنا بتميّز مقارنة بنماذج غربية تربط مكافحة الفساد بالإجراءات القضائية اللاحقة للخطأ. بينما تعتمد التجربة الصينية على دمج الرقابة في الحياة اليومية للمؤسسة، بحيث يصبح الالتزام معيارًا ثقافيًا لا مجرد استجابة قانونية.
ومن منظور الاقتصاد السياسي للإدارة، يخلق هذا النهج توازنًا بالغ الحساسية بين المرونة والانضباط. فالإبداع يحتاج مساحة للحركة، لكن هذه المساحة تتطلب قواعد تمنع تحوّلها إلى فوضى تنظيمية. هكذا يصبح الانضباط ليس ضدّ الابتكار، بل شرطًا لازدهاره. المؤسسات الأكثر قدرة على التغيير ليست تلك التي تعمل بلا قيود، بل تلك التي تمتلك آليات ذاتية للتقييم والتصحيح دون انتظار أزمة أو تدخل خارجي.
وتنعكس هذه المنظومة على الشرعية المؤسسية أيضًا. فكما بينت المقالة السابقة، بُني جزء من الثقة العامة في الصين على الأداء؛ لكن الأداء، كي يبقى مستدامًا، يحتاج إلى انضباط يحافظ على جودته ويمنع تآكل النزاهة. بهذا المعنى، يشكّل الانضباط «الحسابات الدقيقة» لذاك الرأسمال المعنوي للدولة. وفي غياب هذا التوازن، تُظهر تجارب دول عديدة أن المؤسسات تصبح عُرضة لدوامات من الفساد وضعف المساءلة والصراعات الداخلية.
ويمتد أثر هذا المنهج خارج الحدود الوطنية. فالفكر الإداري الصيني يربط بين الانضباط الداخلي والقدرة على توليد الاستقرار السياسي والاقتصادي خارجيًا. ولهذا لا تُفهم الدبلوماسية التنموية — كما في مبادرة الحزام والطريق — باعتبارها سياسة خارجية تقليدية، بل امتدادًا لنفس المنطق الإداري: انضباط في الالتزامات، متابعة دقيقة للمشاريع، وتوازن واضح بين المصالح والمسؤوليات. وهكذا يصبح السلوك الصيني في العلاقات الدولية ترجمة خارجية لمنهج الإصلاح الداخلي، في تفاعلٍ يعكس وحدة الرؤية بين الداخل والخارج.
تقدم هذه التجربة درسًا مهمًا للحوكمة في العالم: أن الانضباط — حين يُصاغ كمنهج إصلاح لا كأداة قمع — يصبح جزءًا من البنية التحتية للثقة، وعمودًا فقريًا لاستدامة الأداء، ومحركًا لبيئة تنظيمية أقل ميلًا للصراع وأكثر قدرة على الابتكار. وهو الدرس الذي يمهّد للمقالة القادمة حول الدبلوماسية التنموية، لفهم كيف تنتقل منطقية الإصلاح الداخلي إلى منطقية النفوذ الخارجي.

* استند هذا المقال إلى قراءة تحليلية في كتاب «ماذا وكيف يفكر القائد الصيني: استراتيجيات شي جينبينغ في قيادة الصين»، تأليف: تشن جيه ومحمد زريق (دار زمكان، بيروت، 2025)، مع تطوير الرؤى المطروحة في ضوء خبرة الكاتبة في مجالات الحوكمة وإدارة النزاعات وسلاسل التوريد العالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى