حين تتحول التنمية إلى هندسة نفوذ: الحزام والطريق كاستراتيجية طويلة المدى

اجنادين نيوز / ANN

د. عائده المصري، باحثة وكاتبة إعلامية متخصصة في الحوكمة العالمية والاقتصاد السياسي، بخبرة في إدارة النزاعات وتعزيز مرونة سلاسل التوريد. الاتحاد الدولي للصحفيين الدوليين/كتاب العرب اصدقاء وحلفاء الصين.

“إن التنمية حق لكل الدول، وليست امتيازًا تحتكره قلة منها”. تنطلق هذه العبارة في كتاب ماذا وكيف يفكر القائد الصيني باعتبارها أساسًا للرؤية الخارجية للصين، لكنها بالنسبة لي ليست مجرد مبدأ سياسي، بل اختصار لطريقة مختلفة في فهم العلاقات الدولية. بحكم عملي في تحليل الحوكمة وسلاسل التوريد العالمية، لطالما بدت لي مبادرة الحزام والطريق مشروعًا يتجاوز “البنية التحتية” نحو صياغة معادلة جديدة للتأثير تعتمد على بناء القدرة بدلاً من فرض الإرادة.
منذ إطلاقها، تقدّم الصين المبادرة كإطار يُعاد من خلاله ربط الاقتصادات على نحو يقلّل من هشاشة الدول أمام تقلبات الأسواق، ويرفع قدرتها على الوصول إلى الموانئ والطاقة واللوجستيات. وهنا يطابق الكتاب بين فلسفة الحوكمة الداخلية، التي ترتكز على وضوح المسؤوليات والانضباط وتنمية الأقاليم، وبين النسخة الخارجية منها. فالمبادرة ليست امتدادًا استثماريًا فحسب، بل امتدادًا لنفس المنطق الإداري الذي يضع “النتائج” فوق “الوعود”.
من منظور الاقتصاد السياسي الذي أتابعه، يمكن قراءة المبادرة كصيغة لإعادة توزيع الثِقَل الجيو–اقتصادي، حيث لم تعد القوة تُقاس فقط بما تملكه الدول من موارد، بل بما تتيحه من شبكات ترابط تسمح بتدفق السلع والطاقة ورؤوس الأموال بكفاءة وأمان. وفي هذا السياق، يصبح بناء الطرق والموانئ خطوط نفوذ طويلة الأجل، لا أدوات دبلوماسية قصيرة المدى.
لكن ما يميز الحزام والطريق، وهذا ما يلفتني شخصيًا، ليس حجمه بقدر ما هو أسلوبه. فالصين لا تربط تمويل مشاريعها بشروط سياسية مباشرة، بل بعقود تنموية طويلة المدى، ما يمنح الدول قدرة أكبر على التفاوض وعلى توزيع المخاطر. هذا النموذج، كما يوضحه الكتاب، يقوم على تحويل التنمية نفسها إلى لغة مشتركة: كلما توسعت القدرة الإنتاجية لدولة ما، زادت قدرتها على المناورة الاقتصادية وعلى جذب الشراكات.
وبينما تُحمَّل المبادرة أحيانًا نقدًا في الإعلام الغربي بوصفها “أداة نفوذ”، فإن ما يظهر في كثير من الحالات هو أنها منصة لإعادة بناء استقرار لوجستي أكثر من كونها مشروعًا جيوسياسيًا مباشرًا. فالدول التي شهدت تحسّنًا في بنيتها التحتية، من موانئ شرق أفريقيا إلى شبكات النقل في آسيا الوسطى، باتت أقل عرضة للاضطرابات التي قد تضرب سلاسل الإمداد العالمية. وهذا الجانب، كمتخصّصة في إدارة النزاعات وسلاسل التوريد، يبدو لي من أكثر نتائج المبادرة أهمية، رغم قلّة تسليط الضوء عليه.
إن قراءة الحزام والطريق عبر فلسفة الكتاب تسمح بفهم أعمق لطبيعة النفوذ في القرن الحادي والعشرين: نفوذ لا يتشكّل من استعراض القوة، بل من بناء بيئات تنموية قابلة للحياة. وهنا تتقاطع رؤيتي مع ما يطرحه الكتاب؛ فالقوة، في النهاية، ليست ما تفرضه الدول على غيرها، بل ما تبنيه معها.

* استند هذا المقال إلى قراءة تحليلية في كتاب «ماذا وكيف يفكر القائد الصيني: استراتيجيات شي جينبينغ في قيادة الصين»، تأليف: تشن جيه ومحمد زريق (دار زمكان، بيروت، 2025)، مع تطوير الرؤى المطروحة في ضوء خبرة الكاتبة في مجالات الحوكمة وإدارة النزاعات وسلاسل التوريد العالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى