الصين في المخيلة العربية: حين كنا نرى العالم بلا وسيط

اجنادين نيوز / ANN

بقلم : المهندس غسان جابر

في زمنٍ كانت فيه الأمم تُعرَف بآثارها لا بضجيجها، وبما تُنجز لا بما تعلنه، لم تكن الصين بعيدة عن العقل العربي كما يُخيَّل إلينا اليوم. كانت هناك، في كتب الجغرافيين، وفي دفاتر التجار، وفي وعي الدولة العربية وهي تتعامل مع العالم بوصفه مجالًا للتفاعل لا ساحة صراع دائم.
لم يكن العربي القديم بحاجة إلى مترجم سياسي ليفهم الصين، ولا إلى وسيط أيديولوجي ليصنّفها. رآها كما هي: حضارة بعيدة في المكان، قريبة في المعنى؛ مختلفة في الأسلوب، متشابهة في الإيمان بأن الدولة ليست صراخًا، وأن القوة ليست استعراضًا.
كانت المخيلة العربية، آنذاك، ترى الشرق من الشرق.
وكان هذا وحده كافيًا لصناعة معرفة متوازنة.
التاريخ بوصفه ذاكرة لا حنينًا
عبر طرق التجارة البرية والبحرية، لم تنتقل البضائع فقط، بل انتقلت الأفكار عن النظام، والانضباط، وطبيعة الحكم. لم يكن العربي مفتونًا بترف القصور الصينية، بقدر ما كان متأملًا في فكرة الدولة الطويلة النفس، التي تخطط لعقود لا لمواسم.
ولهذا، لم تدخل الصين إلى الوعي العربي بوصفها تهديدًا، بل بوصفها تجربة إنسانية مختلفة تستحق الفهم.
وهنا تكمن نقطة جوهرية: العقل الذي لا يخاف من الاختلاف، لا يحتاج إلى شيطنته.
القطيعة التي لم تكن بريئة
ثم جاء زمن آخر، تغيّر فيه العالم، لا فقط في خرائطه، بل في مراكزه المعرفية.
لم يعد الشرق يقرأ الشرق، بل صار يُقرأ عنه.
مع صعود الغرب الحديث، لم تُفرض الهيمنة بالقوة العسكرية وحدها، بل بالمعرفة أيضًا. أُعيد تعريف الأمم، لا كما هي، بل كما ينبغي أن تُرى من زاوية مصالح القوة المهيمنة. وفي هذا السياق، تراجعت الصين في الوعي العربي، لا لأنها غابت، بل لأن صورتها صودرت.
صرنا نعرف الصين من تقارير الآخرين، ومن تحليلات لا تُخفي تحيزها، ومن خطاب يرى العالم ساحة تنافس صفري، لا مجالًا للتعدد والتوازن. وهكذا، تحوّلت حضارة كاملة إلى عنوان اقتصادي، أو ملف سياسي، أو خطر محتمل.
المخيلة ليست ترفًا ثقافيًا
قد يبدو الحديث عن “المخيلة” مسألة ثقافية، لكن الحقيقة أنها مسألة سياسية بامتياز. فالأمم التي ترى العالم بعيون غيرها، تتخذ قراراتها بمنطق غيرها، وتخوض معارك ليست معاركها، وتخسر حتى حين تعتقد أنها اختارت.
من هنا، فإن استعادة الصين في المخيلة العربية ليست دفاعًا عن دولة بعينها، بل دفاع عن حقنا في الفهم المستقل. حقنا في أن نقرأ العالم كما هو، لا كما يُقدَّم لنا. وهذا ينطبق على الصين، كما ينطبق على غيرها، وربما ينطبق علينا نحن قبل أي أحد آخر.
في زمن التحولات الكبرى
اليوم، يعود الشرق إلى المسرح الدولي، لا كظلّ، بل كلاعب رئيسي. والصين، شئنا أم أبينا، جزء من هذا التحول. لكن السؤال الحقيقي ليس: أين تقف الصين؟
بل: أين نقف نحن من هذا العالم الجديد؟
هل ندخله بعقل التابع الذي ينتظر الإشارة؟
أم بعقل الشريك الذي يفهم، ويوازن، ويختار؟
نقول : حكمة اللحظة
التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يذكّر.
والمخيلة ليست ذاكرة للماضي، بل أداة لفهم الحاضر وصناعة المستقبل.
حين نتحرر من الصور الجاهزة، ونستعيد قدرتنا على رؤية العالم بلا وسطاء، نكتشف أن القوة الحقيقية لا تكمن في الانحياز السريع، بل في الفهم العميق؛ ولا في رفع الصوت، بل في وضوح الرؤية.
وفي عالمٍ تتزاحم فيه الروايات، تبقى الحكمة القديمة صالحة:
من لا يملك صورته عن الآخرين، سيعيش دائمًا داخل صورة رسمها له غيره.

زر الذهاب إلى الأعلى