غبار الطبشور… حين تتحوّل السبورة إلى مرآة للروح

اجنادين نيوز / ANN

سمير السعد

في أحضان كوردستان العراق، حيث الجبال تهمس للغيم، وتتنفّس الوديان عطر التفاح البري، تولد الكلمات وهي تتماوج بين رياح الحرية وجمال الطبيعة. من هناك، من مدينة السليمانية — تلك المدينة التي اعترفت بها اليونسكو عام 2020 مدينةً للثقافة — ينبثق صوت أدبي كرديّ أصيل، صاغ من الجبال والأنهار معجمه الخاص في الحبّ والاغتراب.

وُلد أبو بكر كارواني عام 1963 في مدينة السليمانية، من أبٍ وأمٍ كرديين. بدأ مسيرته المهنية في الصحافة المعارضة للحكم البائد، حيث عمل صحافياً في إحدى الجرائد المستقلة، ثم مترجماً ومذيعاً في الإذاعة. وبعد عام 1992 عاد إلى مسقط رأسه ليؤسس أول مركز لتعليم اللغات الأجنبية في السليمانية، حيث درّس اللغة الفارسية على مدى ثماني سنوات، واضعاً أسساً تعليمية متقدمة لطلابه.

كانت باكورة أعماله العلمية كتاب (قواعد اللغة الفارسية)، أعقبه بـ (قاموس كارواني المعاصر) الذي طُبع ست مرات، وتنتظر الطبعة السابعة المنقّحة الصدور قريباً في مجلد ضخم يضم 952 صفحة. كما ترجم عدداً من الكتب الفارسية إلى الكردية، منها (أسس علم السياسة – النظري والعلمي).

يُعدّ كارواني من أوائل من كتبوا عن السينما باللغة الكردية، وله مؤلفات بارزة منها (القاموس السينمائي والملحقات السبعة) و (فيلموغرافيا السينما الكردية) ، في جزأين. وبدافع التقارب الثقافي بين الكرد والعرب ألّف كتاب (أسلوب المحادثة العراقية) الذي يحظى بإقبال واسع وتُنتظر طبعته السابعة قريباً .

كما أصدر مجلته الخاصة (ريدار )، وكان صاحب الامتياز ، بينما تولّت زوجته رئاسة التحرير. كما كتب في عدد من الصحف الكردية والعربية، منها جريدة نهج الحرية، وله مقالات منشورة في جريدة المؤتمر، دون أن يتقلد مناصب إدارية في الصحف العربية.

شغل كارواني أيضًا مسؤولية صفحات السينما في عدد من الصحف الكردية، ورئاسة تحرير أول مجلة رياضية كردية (الأولمبيك) الصادرة عن اللجنة الأولمبية الكردستانية. وله مشاركات عديدة في الندوات السينمائية التي عُقدت في محافظتي السليمانية وأربيل، فضلاً عن فيلم قصير بعنوان “صانع المهد” تناول فيه بجرأة محتوى سياسياً معاصراً .

كتب معظم أعماله باللغة الكردية، فيما صدرت له مجموعتان شعريتان باللغة العربية، الأولى بعنوان (نصوص لقروي معاصر)، والثانية (غوغائية الكلمات السيالة) التي دخلت مؤخراً مرحلة التصميم قبل الطباعة.

ورغم أن تعليمه الرسمي لم يتجاوز الإعدادية، فإن تجربته الحياتية والثقافية الغنية صاغت منه كاتباً ناضجاً ، يكتب كما يتنفّس، ويصوغ فكره بلغة بسيطة ولكن عميقة. له مؤلفات متنوّعة بين الأدب، والسينما، والفلسفة، واللغة، فضلاً عن قواميس لغوية وسينمائية تُظهر جهده البحثي الدؤوب وسعة اطلاعه.

في نصّه الشعري “غبار الطبشور (قصة العشاق)” من مجموعته الأولى “نصوص لقروي معاصر”، يُقدّم كارواني صورة رمزية آسرة عن هشاشة التجارب الإنسانية، مستخدماً السبورة والطبشور كاستعارة للذكريات والعلاقات العابرة:

“كم أصبحت صدورنا
من المارين عليها
تشبه السبورة!”

هنا تتحول الصدور إلى لوح كتابةٍ يُخطّ عليه الآخرون حكاياتهم، دون أن يدركوا أن أثرهم، مهما بدا زاهياً ، سينتهي بغبارٍ خفيفٍ يطير مع أول نسمة نسيان.

الطبشور في القصيدة رمز للعابرين في حياتنا، أولئك الذين تركوا أثراً مؤقتاً — جميلاً لكنه هشّ. أما السبورة فهي ذاكرة القلب، تُكتب وتُمسح، لكنها لا تنسى ما مرّ عليها من خطوطٍ وألوان.

“لم يقدروا
لم يمكثوا
إلا مدة قصيرة!”

بهذه البساطة الموحية، يرسم الشاعر فلسفة عميقة عن الوقت والوجود، عن العلاقات التي تبهت، والعواطف التي لا تدوم. لكنّ ذروة النص تكمن في توقه الداخلي إلى التطهير، إلى تحطيم تلك السبورة التي أثقلها الغبار:

“آه من قلبي
كم ينتظر أحدًا
ليكسر السبورة
ويفرج عن الهموم المحصورة!”

كأنّ الشاعر هنا يبحث عن الخلاص الوجداني، عن يدٍ تُعيد تشكيل الذات من جديد، وتجمع القطع المكسورة في لوحةٍ صافية بلا شوائب.

قصيدة “غبار الطبشور” ليست مجرد تأمل في الفقد، بل هي دعوة إلى التحرّر من أثقال الذاكرة، وإعادة رسم الحياة بخطوطٍ أكثر صدقاً . في عالمٍ تتزاحم فيه الأصوات، يبقى صوت أبو بكر كارواني صوتاً يحمل نكهة الجبال الكردية، وعمق الإنسان الذي يؤمن بأن الجمال يولد من البساطة، وأنّ الحرف يمكن أن يكون مرآةً نقية لروحٍ مثقلة بالحب والوجع معاً .

إنها قصيدة من تلك الأرض التي تشبه الشعر، حيث كل حجرٍ يروي حكاية، وكل نسمةٍ تهمس بمعنى. ومن هناك، من (تلك ) المدينة – السليمانية، مدينة الغيم والشعر – يكتب أبو بكر كارواني نصّه الإنساني الخالد:

“كأنّنا طبشور… نضيء لحظةً، ثم نصير غباراً على سبورة الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى