سلحفاةٌ عارية

اجنادين نيوز / ANN

وحيد غانم

سار الصبيُّ على طولِ ضفةِ شطِ العرب تحتَ ظلال نخلاتٍ متناثرات، بقايا مما كانت قبل عقود غابةَ نخيل معتمةً حتى خرَّبتَها الحربُ، ما زالت عيناهُ تبحثانِ عن خيطِ الصيد الذي فقده في الأمس، وعنّفهُ أخوه جراءَ ذلك، وفي الصباحِ أكتفى بثلمةِ خبزٍ مسحها ببقايا زبدةٍ ملتصقة بغلافِها اللامع وأعقبَها بقدحِ ماء.
بدا لاهياً عن التفكير بأيِّ شيء عدا العثورِ على خيطِ الصيد، بينما خلتْ الضفةُ الموحلةُ من صيادي الأسماكِ في صبيحة يومِ الجمعة، فقرّرَ النزول إلى الساحلِ الطمي والخوضَ بين الاشناتِ، كان يعلم أن طيورَ الغاق تبيض هناك ولم يكن يفكرُ بجمع بيضِها فلا أحدُ يأكله، رأى نفاياتٍ وبقايا أنقاضٍ وجرذان ورأى أفعى ماءٍ تنسابُ مع التيّار، راقبها طويلا وهو يسير متعثّرا بالصخور الزلقةِ، ثم أنعشه منظر سلحفاةٍ تدبّ نحو الضفّة، وبدون أن يدري ما يفعلُ بها أسرع لالتقاطِها. تحركت اقدامُها القاسيةُ بين يديه ودفنتْ رأسَها داخلَ قحفتِها، وضع السلحفاة في علبةِ كارتون وحمَلها.
بلغ الجسرَ العائمَ وعبرَ إلى جهةِ الكورنيش، ثم مضى إلى السوقِ الكبير في العشّار، كان جامع قديم يبرز عند ركنِ تقاطع طرقٍ مطلّاً على نهرِ العشّار، دخل ازقةَ السوق وممراتهِ الظليلة العابقةِ، مسحت عيناه وهو يسير اكياس الحبوبِ والكرزاتِ التي تتقدّمُ المحلاتِ، غافل أحدَ الباعة وحفَن شيئاً من الزبيبِ، رمى بعضَه للسلحفاة ومضغَ البقية.
في نهاية الدربونةِ التي ظلّلها سقفُ صفيحٍ جملوني استراحَ قبالة مقهى صغيرٍ مقتعداً الدكّةَ الحجريةَ. ركنَ علبة المقوى إلى جواره، ولاحظ عجوزين يحملقان في كتابٍ، وقد تلامس رأساهما، فطلب منهما ان يسمحا له بشربِ بقايا عبوةِ ماء. اظمأه طعمُ الزبيبِ، قال أحدُهما: انهضْ هات لنا عبوتي ماء وخذْ لك واحدةَ!
شرب نصفَ العبوة ومسحَ العرق َمن على وجههِ. بدأ أحدُ الرجلين يقرأ في الكتاب بصوتٍ جهير:
ربّى عبّاسُ الأعور* ديكاً هراتياً كبيراً وشرساً، كان درّبهُ على مواجهةِ الديوكِ الأخرى. الديك الهراتي العنيفُ كصاحبهِ سيّئُ الطباعِ طار صيتهُ عندما أنتزَع عينَ المجندِ الأمريكي جيم مُحبِ الطيور. كان جيم يتجولُ في سوقِ الغزل عندما جذبهُ منظرُ الديك غريبِ الخلقةِ. كان ديكاً وسخاً مفقوءَ العينِ ذا جاذبية غريبة.
أحبَّ جيم الطيورَ الأليفةَ لكنه أكتسبَ اهتماماً عاماً بالطيورِ من خلال شغفِ صديقه المجنّد بيتر فالفي بتصنيف الطيور خلال تجوال سريته في أراضي العراق.
قرصَ جيم عرفَ الديكِ المثلّم وقالَ بعربية ركيكةٍ وهو يضحكُ فتلمعُ عيناه الزرقاوان” تبيع؟ هيّا أعطيك دولارات.. هيّا خذ فلوس وأشطح! ”
أنتفض الديكُ، أدار رأسَه المنتفخَ ورمقَ المجندَ الفتيَّ بعينهِ السليمةِ. كان عبّاس الأعور يرمقهُ هو الآخر صامتاً. أغمض عيناً وأمال رأسه مدخناً سيجارَته، كان حضور المجنّد يضغطُ على أعصابهِ.
خطرتْ للصبي فكرةُ الذهاب إلى سوقِ الجمعة وبيعِ السلحفاة، لكنه لا يملك أجرَة الباص، وجد أنه لو سارَ ورصيفَ نهر العشّار فسيبلغ السوقَ قبل الظهيرة، ما زال الرجل يقرأ بينما فقد الآخر اهتمامَه فدخنَ سيجارةً، توقف الآخر عن القراءة وقال: لم تعدْ عيني اليمنى تساعدني!
خلع نظارتَه ومسحَ عينيه ثم عاودَ القراءَة، فأثارَ صوتهُ انتباهَ عاملِ المقهى، تفحّصهمْ بنظرةٍ غائمة. خطرَ للصبي أنه يشبه عباساً الذي في الكتابِ، فله شارباه الكبيران، وكان عبّاسٌ يشبه أخاه، لكنه لا يعرفُ بما يشبههُ، لمس علبةَ المقوّى فأحسَّها ثقيلةً، ربما جفَّت السلحفاة في داخلها وماتتْ، فدلق عليها الماءَ من فتحةِ العلبة. سأله الرجل: ما تحمل معك؟
: سلحفاة!
: مسكينة! وماذا تفعلُ بها؟
: سأبيعها!
رمقه الرجلُ مستغرباً، مسحتْ نظرتهُ وجهَه وثيابَه الرثة وجسدَه، كأنما ألتقط له صورة، نظر عبّاس الأعور إلى ديكهِ الثقيل وأختار مقعداً خارجياً في أحدى مقاهي الباب الشرقي. وضع الديك على الأرض وقد عقدَ رجليه بحبل، بدا استسلامُ طائرهِ العزيز محيّراً له فظنّهُ مريضاً، ما أن تناول قدحَ شاي وسحبَ نفسَ دخانٍ من سيجارتهِ حتى أقتربَ منه رجلان، كان أحدُهما سميناً مورَّد الخدّين، نظرا إلى الطير بينما سأله النحيفُ الذي أطلقَ قميصَه فوق بنطلونه: تبيع؟ والله هذا الهراتي ينفعُنا على الغداء!
هزَّ عبّاسُ رأسهَ رافضاً عرضَهُ فبادره السمين: لكْ داد شتترجى منه؟ هذا ديك عجوز ولحمهُ عاصٍ، لكننا نعرف كيفَ نطهوه. هاها.. صاحبي اشتغلَ طباخاً بالفنادقِِ الكبيرة في بغداد وهو يعمل الآن مع الأمريكان.. هيّا، خذ هذه العشرين دولاراً !
نظر عبّاس إلى الطائرِ الثقيل الجاثم بسكونٍ وإلى ورقةِ الدولارات، كان متعباً وجائعاً، ومع أنه شعر بالغضبِ يحتدمُ تحت جلدهِ إلا أنه مدّ يده وتناولَ المبلغ.
قطع الصبي المسافةَ مشياً إلى سوقِ الجمعةِ، كان الهواءُ يسخنُ مع صعودِ الشمس، بينما نقل العلبةَ بين يديه وتحتَ مرفقيه واحتضنَها. عندما بلغ المكان رأى حشوداً تزحم الشارعَ. في كل يوم جمعة تقطعُ عرباتُ الشرطة احد ممري الطريق ويُمنع مرور السيارات فيه.. تعالت المنبهاتُ وأصوات الباعةُ، لغطٌ مدوٍ هاجمه واجسادٌ اعترضته فشقَّ طريقَه وسار حتى الدربِ المؤدي لسوقِ الطيور، وهناك واجه صخباً مغبرَاً ولفحته رائحةٌ منتنّة. قرفصَ بين بائعي فراخِ بطٍ وعرض سلحفاتَهُ.
اثار منظرُ السلحفاة فضولَ البعض وتجمّع صبيةٌ لمسوا قحفتَها وتضاحكوا، مرّت ساعةٌ جلدتْهُ فيها أنظارَ الباحثين عن طائرٍ أو حيوانٍ، ثم استكانَ ومدّ ساقيه وقد شدّ انتباهَه رجلٌ يحملُ صقراً مكمّماً. كان الصقر يدير رأسَه مصغياً لأصواتِ الطيورِ الأخرى، أحسَّ الصبي بالمللِ والتعب وفكر أن يعيدَ السلحفاةَ إلى الشطِ لكنه شعر بالعجزِ عن حملها، وفي الأثناء سمع أحدَهم يسألهُ: تبيع؟
كان رجلان يتطلعان إليه، أحدُهما بدا سميناً مورَّد البشرةِ، بينما سأله النحيف الذي أطلق قميصَه فوق بنطلونهِ وهو يبتسم: ذكر أم أنثى؟
حرّك الصبيُّ كتفيه وقال: لا أدري
قال النحيفً الذي قرفص: صاحبي حلّاقٌ وسيستخدم غشاءَها الداخليَّ في عمل بطانةٍ للباروكة، يعتبر بجودة جلودِ التماسيحِ!
نظر الصبي بدهشةٍ إلى السلحفاة وهو يتخيَّلها عاريةً من درعِها. سألهما: وماذا ستفعلان بها؟
: نضعها في كيس نايلون ونخنقُها!
ادهشتهُ اجابةُ الرجلِ النحيف وأخافتهُ، اضحكتهُ قليلا، فلم يصدقْهما، لكن السمين وضع في يده خمسة آلاف دينار. تفاجأ بالمبلغ.. حمل النحيفُ السلحفاة بكلتا يديه وتبع صاحبَه، بينما تلمَّسَ الصبي ورقةَ النقدِ ودسَّها في جيبهِ وهو يتلفّتُ حذراً.
• شخصية في رواية الحلو الهارب إلى مصيره للمؤلف

زر الذهاب إلى الأعلى