حفريات المعرفة ومعولنا المفقود

اجنادين نيوز / ANN

الدكتور صلاح حمادي الحجاج

نقف اليوم كمن أراد أن يحفر في أرضه ليكشف عن كنوزها، لكنه أضاع المعول منذ زمن طويل… لأننا نخوض حفريات معرفية متأخرة، متعثّرين بأدواتٍ مستوردة غالبا ما تكون لا تُلائم طبقات وعينا واستجاباتنا الخاصة في قراءة التاريخ، لاسيما نحن اليوم نشهد عالما باتت فيه الأفكار تُسَوق وتُستهلك كما تُستهلك البضائع والسلع، وهنا تقف الذات العربية التائهة والحائرة بين مناهج وافدة لا تفهم لغتها بعد ان فرضت عليها، وتراث غني ومثقل لا تجد السبيل إلى تحليله وتأويله.
ان (حفريات المعرفة): ليست مجرّد استعارة بلاغية وجمالية في أصول النقد والبحث، بل هي منهج فلسفي وفكري ابتكره الفرنسي (ميشيل فوكو) للبحث في أنساق الفكر المضمر عبر التاريخ، لا بوصفها سلسلة متواصلة ومتداخلة ومتطورة، بل كأنها حقب تاريخية متراكمة ومنفصلة لا يربطها بالضرورة افق زمني أو منطقي ثابت وواضح.
(حفريات المعرفة) اذن هي دعوة إلى التعامل مع كل حقبة تاريخية بوصفها كيانًا قائمًا بذاته، لها شروطها المعرفية الخاصة، ولغتها، وصراعاتها، ومنطقها الداخلي لا يمكن ان تتشابه او تكون مستنسخة عن حقبة أخرى حدثت في زمن ما. لذا من التعسف الربط بين فترات مختلفة من التاريخ، لأنها تكون اشبه بمحاولة لتزييف الوعي، وتحميل الماضي ما لا يحتمله وتقويله ما لم يقل.
إن الإصرار على قراءة التاريخ بطريقة أفقية، يُنتج فهمًا ساذجًا وملتبسًا للوعي الجمعي، لأنه يجعل جميع التفاصيل كأنها ملونة بلون واحدًا، وكأنها نُسخ متعاقبة من وعي واحد يتطوّر أو يتراجع يتقدم او يتأخر. والحقيقة هنا تكون أكثر تعقيدًا بكثير. فاللحظات التاريخية لا تُقاس بالزمن فقط، بل بالبُنى والإنجازات التي أنتجتها؛ لان كل مرحلة من مراحل تاريخنا العربي على سبيل المثال قائمة بخصائصها وبشروطها الخاصة، تجمع بين المجد والازدهار وبين الذلة والانحسار ضمن نظامها الاقتصادي والسياسي والخطابي والسوسيولوجي، لا بوصفها مجرد حلقة في سلسلة، بل سلسة كاملة في حلقة.
ان الوعي الزائف بالاتصال من أبرز الإشكالات التي يعاني منها الفكر العربي المعاصر، تلك السردية المتواصلة التي تُصرّ على تقديم التاريخ كخط مستقيم صاعد أو هابط، وكأن للأمة وعيٌ واحد ممتد ومتصل عبر العصور، لا يعرف القطيعة ولا الانفصال، ففي اغلب المناهج التعليمية، وفي الخطاب السياسي، وفي الذاكرة الجمعية، وغيرها، يُروى التاريخ وكأنه سلسلة ذهبية واحدة، تبدأ من “العصر الذهبي” وتمر بزمن “النكسة”، ثم تنتهي بوعد “النهضة”، دون أن يُسأل: أي عصر ذهبي هذا ؟ أي نكسة تلك؟ وأي وعي هو الذي عاش كل هذا؟ هذا النوع من السرد ينتج ما يمكن تسميته بـ”الوعي الزائف بالاتصال”، حيث نتصوّر أن أمتنا خاضت تجربة واحدة متماسكة، لا انقطاعات فيها، ولا تغيّرات في أنظمة المعرفة. ولهذا، تأتي الحاجة إلى حفريات عمودية، تكشف عن القطيعات المعرفية، وتعيد بناء وعينا بالتاريخ على نحو أكثر صدقًا، وأقل خضوعًا للرغبة في التجميل.
وعندما نتكلم عن ضياع المعول، لابد من وضع أسئلة مفادها: هل أضعناه… أم أتم اخفاؤه عنا؟ ام تم استبداله بقصص وحكايات تتناقلها الأجيال.. فعندما نتأمل حال الفكر العربي، لا يمكن أن نتجاهل تلك الفجوة الهائلة الحاصلة بين الحاجة إلى النقد بزيه العربي من جهة ، وبين غياب الأدوات الخاصة به من جهة أخرى. ففي الكثير من اللحظات نُدعى للبحث، للتحليل، للتأويل، للتفكيك، للحفر… لكن المعول المناسب مفقودا من أيدينا. فهل فقدناه عن جهل؟ أم تم انتزاعه منّا.
اذ يمكن القول إن المعول فُقد بفعل التواطؤ التاريخي والازلي بين السلطة والمعرفة؛ بوصف السلطة تخشى دائما النقد الحقيقي، وتخاف الحفر العميق الذي يكشف الأساسات الهشة، وتُفضّل أن يبقى العقل العربي في دائرة الاجترار المغلقة، فلا للتساؤل، ولا للاستنتاج والاستدلال، بعدما استبدال الحفر بالتمجيد، والسؤال بالشعارات، والمعول بالخرافة، والبطولات.
وفي وجه آخر، نحن أيضًا شركاء في عملية الفقد. لأننا تعوّدنا على الأجوبة المعلّبة والقوالب الجاهزة، وعلى تكرار مقولات من سبقونا دون مساءلتها ودون الحفر بأعماقها. فقد تحوّل المعول من أداة إلى أثر، وربما من وسيلة إلى ذكرى، ان سعينا لاستعادة المعول، لا يعني فقط أن نمتلك أداة حادة للحفر، بل أعلينا ان نمتلك أولا الشجاعة لاستخدامه. والتخلص من فكرة الخوف من الحفر والتفكيك، خشية أن يقود الحفر إلى فقدان الهوية، أو انهيار صورة الذات (المرسومة) المثالية وهذا ما ينطبق أيضا على المجال الاجتماعي والسياسي والخوف المستمر من الحفر ومن أدوات النقد الجاد خوفا على مصالحها الشخصية.
وفي الختام إن حفريات المعرفة في السياق العربي ما تزال مؤجلة، ومغيبة، لأن أدواتها مغتربة، وأسئلتها معلّقة، وجرأتها منقوصة. لكن الحاجة إلى الحفر تزداد إلحاحًا، لأننا بحاجة لاكتشاف ذاتنا أولا وليس لاستعادة امجادنا.

زر الذهاب إلى الأعلى