ماذا خلف الكلمات ؟

اجنادين نيوز / ANN

عادل السرحان

قراءة في نصوص ،، للشاعر داود الفريح

*أكادُ اُبصرُ ظلالها
الاشجار التي قُطعت اغصانُها
من اجلِ الموقد
$$$$$$$$$
الأغصانُ هنا وهناك (في الظلِّ – في الإحتراق) هنا يحاولُ الشاعرُ داود الفريح أنْ يُفرغَ لحظته الشعورية بكثافة وايجاز ، يوحي لنا بالمعنى ويترك للقارئ سعة مساحة التأويل وهذه هي أهم خصائص شعر الهايكو أو الومضة الشعرية .
يقول : أكاد -وهو فعل مقاربة ورجاء-يوحي باقترابه من صورة ظلال أغصان الأشجار التي قُطعَتْ وذهبت الى الموقد وأنها حاضرة قريبة في وجدان الشاعر بمعانيها وبذلك يجعلنا نشعر بأن مهمة الأغصان هنا واحدة في كلتا الحالتين وأن خضرتها ويبسها وإن كانا متضادّين ظاهراً إلا إنهما يتعانقان ليُعبّرا عن السمو والعطاء المستمر حتى النهاية ، كما أن هناك ملمح آخر مختبىء خلف الكلمات فيه معنى التأسف على تغيّر حال الصور الإيجابية في الحياة من الحيوية الى الهمود المعبر عنه (بالموقد) الموحي بالنهاية . كما أن استخدام (قُطعَتْ) بصيغة البناء للمجهول للدلالة على التعميم والتهويل يضفي معنى تراجيدياً على الصورة الشعرية .
$$$$$$$$$

ترى ماالذي أثارها
في باب المسجد
العصافيرُ تُحدث مشاجرة!
$$$$$$$$
(عصافير ، مسجد، مشاجرة )
في المسجد الطمأنينة والسكينة والسلام وفي العصافير السلامُ والوداعة ، والسؤال الموحي الذي يطرحه الشاعر ويرتكز عليه عمود القصيدة هو مالذي جعل هذا الفعل ( المشاجرة ) يحدث في بيئة غير بيئته المعتادة ؟ وفي هذا انكارٌ على البعض من الذين أخرجوا المسجد عن غايته فمن يُنكر عليه العاقل ( الانسان ) وليس غير العاقل ( المسجد كبناء أو العصافير المتشاجرة ) .
$$$$$$$$

*بعد يوم عصيف
تقتحم العصافير الحقل
الفزاعة عارية!
$$$$$$$$
(يوم عصيف ، عصافير تقتحم ، فزّاعة عارية )
في هذه القصيدة باين الشاعر بين الكلمات والمعنى بعمق للوصول الى التكثيف والإدهاش فالعصافير رمز السلام تقتحم والإقتحام فعل مرتبط بالقوة التي لاتمتلكها فمن أين جاءتها هذه القوة ؟ ويبدو لي أن داود الفريح
ولاأريد أن أتقول عليه هنا ولكن أُفتّشُ في كلماته عن المعنى البعيد ذهب إلى
تصوير (الثورة على الطغاة ) فعادل العصافير بالجماهير ، ويوم عصيف بيوم الثورة ، والفزّاعة بالطاغية ،
وجعل ضعف العصافير ( الجماهير) قوة حين تمارس الفعل الثوري ( تقتحم) في يوم عصيف بصيغة المبالغة الدالة على كثرة العصف وتتابعه والذي لن يقاومه الطغاة ( الفزاعة ) واستخدم تعبير الفزاعة ليبرهن على خواء الطغاة وشبههم بفزّاعة البساتين التي يتكشف ضعفها حين تشتد الريح ، وجاء بلفظة الحقل للدلالة على الأوطان والخير الوفير الذي تتمتع فيه وكيف حرمها الطغاة من كل خيراتها ، وبذلك يتجسد معنى التكثيف اللفظى واتساع التأويل في قصيدة الهايكو .
$$$$$!!!!

*أتعبنا الإنحناء
أنا وأزهار عبّاد الشمس
ننتظر شروقكِ!
$$$$$$$
يشبه الشاعر حبيبته بالشمس التي تشرق ويستعير صورة زهرة الشمس وهي تنتشي وترفع رأسها لتقابل وجه الشمس ليلقيها على شخصه المشتاق لإطلالة حبيبته وكأنه يقول أن انحناء زهرة الشمس يشبه حزني وانت بعيدة عني فكلانا حزين قبل ان تشرق حبيبته
ومادامت الشمس هي من تبدد حزن زهرة الشمس وتبعث الحياة فيها فانت شمسي التي تبدد حزني وتبعث الحياة فيَّ كذلك .
$$$$$$$$$

*أحزنها إلتحامهما
بغضب تقتل ذبابتين
عانس!
$$$$$$$$$
من يقرأ هذا النص بعمق سوف ينصرف عن معنى هامشي توحي به الكلمات وهوى معنى غضب العانس من ذبابتين ، ولكن يبدو لي أن الشاعر عمد الى استنكار الظروف التي تصنع العنوسة والتي يتعلق جزء كبير منها بحال المجتمع في تقاليده وثقافته وموروثه وهذا الاستنكار يختبئ في سلوك المرأة كذلك ولكن لاتستطيع أن تفصح عنه في مجتمعاتنا وهذا هو السبب الذي جعل داود الفريح مهتماً بهذا الموضوع ليصيغه بقصيدة هايكو
وجاء بقمة رفضه لمسببات العنوسة
وجسَّدَ ثورة المرأة المقهورة بهذا التصوير البديع والرائع .
$$$$$$$

*طقطقةُ كعبٍ
يكسرُ سكونَ المكان
قدومكِ
$$$$$$$
السكون حالة تحتمل التأويل هنا فربما كان دالّاً على السلام والهدوء وبالتالي فان القدوم كان سبباً في تلاشي كل ذلك ، ولكن حين نأوله بدلالة الثبات وعدم الحيوية والرتابة والضجر يكون صوت القدوم ( طقطقة كعبٍ) مدعاة للإنتشاء والتجدد والفرح وبهذا يترك داود الفريح المتلقي يتفاعل مع النص بصفته نص مفتوح على التأويل ، فليست هناك في النص أدنى إشارة ترجح أحد التأويلين على الآخر وهذه براعة تحسب للشاعر .
$$$$$$
* ظلام دامس
وحدها عِكازة الضرير
تبصر ملامح الطريق!
$$$$$$$
(ظلام دامس ، عكازة ضرير ، تبصر ملامح الطريق)
ظلام دامس بصيغة التنكير التي تفيد التعميم فلامجال للنور دون تدخل شيء من خارج الظلمة ، عكازة ضرير
اشارة الى البصيرة التي تقف خلفها فهي كعكازةٍ مجردة لن تدلَّ على الطريق، ووسط الظلام الدامس لن يستدل المبصرون على الطريق لكن ضرير اعتاد
استخدام عكازة يستطيع ان يستدل بها وكأنها تنير له تلك الطريق المظلمة .
ويقيناً أنَّ معنى اختبار الحياة والإفادة من تجاربها وملازمة الأخذ بالأسباب وعدم الركون الى الذات العليا دائماً وعدم امتهان الضعف من المعاني الفلسفية التي اختبأت وراء الكلمات .
$$$$$$
*على كتفِ الشاطئ
يوقظ الموج قيلولتَها
قواربُ راسية!
$$$$$
صورة جميلة تُشبِّهُ رسو القوارب على الشاطئ بالقيلولة للإستراحة من التعب وهذا مايحصل للإنسان ككائن حي لكن الشاعر أسقطه على القوارب ليمنحها صفات الأحياء من خلال حاجتها للراحة قبل أن تبدأ نشاطها في البحر ، وكما يستيقظ الانسان من قيلولته بحركة من حركات الحياة كذلك تستيقظ القوارب من حركة الموج الذي بدأ يلامسها مع المد لتبحر في حياتها الخاصة ، صورة رائعة مفعمة بالإحساس والتجدد جاء بها داود الفريح من عمق شاعريته .
$$$$$$

*ماأحلى غُمازَتها
كلما أُلقي صنارتي
يبتسمُ وجهُ البحيرة!

(غمازة ، ابتسامة ، صنارة ، بحيرة، )
كلمتان منسجمتان وأخريتان منسجمتان أيضاً لكنهما لايمتّان للأولتين بصلة في الواقع بيد أنَّ الشاعرية المتقدة في نفس داود الفريح أخرجت لنا صورة مدهشة حركت الجماد ومنحته الحياة وليس أيّة حياة بل أجمل صور الحياة أنثى تبتسم بغمازة ، هكذا رأى الشاعر أثر الصنارة وهي تسقط في ماء البحيرة .
$$$$$

*وفي نهاية الحصاد
العصفورُ الذي ارهبه الوهمْ
يذرقُ على رأس الفزاعة!

(نهاية الحصاد ، عصفور ، ارهبه الوهم ، يذرق ، رأس فزّاعة ) .
في هذه الومضة يستل الشاعرُ المعنى الكامن في النفس والمُراد من المعنى المُعاش ( الواقع) وليس اي واقع بل واقع يرفضه الانسان بداخله لكن قوة ما ،قاهره تكبته الى حين ، وذلك الحين هو نهاية الحصاد بدلالتها الرحبة فطالما منعت الفزاعة العصافير من التمتع بما يجود به الحقل واحتكرته برمزيتها السلطوية ولكن حين انتهى موسم الحصاد لم تعد للفزاعة قوة تبقيها مفزعة وفي هذا ملمح جميل الى ان الفزاعة ليست مفزعة بذاتها بل بمن يقف وراءها .
لقد أسقط داود الفريح هذا المعنى الذي فتش عنه ولم يجده جاهزاً في الكلمات على القهر السياسي والإجتماعي الذي نعاني منه فحين
تشتعل الثورات ( نهاية الحصاد) وتنتفض الشعوب المقهورة ( عصافير أرهبها الوهم ) لتهين الطغاة ( الفزاعة)
بأشنع أنواع الإهانة وما رمزية ( يذرق على رأس الفزّاعة ) إلا لتعظيم تلك النهايات المذلة التي يتلقاها الطغاة والمتجبرون .
$$$$$
*الزهرةُ التي تفتحت للتو
تلوي عنقها إلى الأرض
نحلةٌ بدينة!

صورة ثلاثية الأبعاد في غاية الروعة ( زهرة طرية تفتحت الان ونحلة بدينة تقف عليها فتلوي عنقها الى الأرض ) هذا مايبدو من السياق الخارجي للقصيدة
لكن المعنى الأجمل والذي أضمره الشاعر خلف الكلمات يقول غير ذلك في قرائتي لهذا النص .

الزهرة التي تفتحت للتو = الفتاة البريئة
النحلة البدينة = إرادة الشر بهذه الفتاة
تلوي عنقها الى الأرض = السقوط في حبائل الخديعة والإذلال .
فلو توقفنا عند مشهد النحلة وهي تمتص رحيق الزهرة ولم نكمل مشوارها الى الشهد وهذا ماأوحى به الينا الشاعر وأرادنا أن نقف عنده عبر دلالة الكلمات التي اختارها ، لوجدنا هذا المعنى العميق والمؤلم الذي كتبت من أجله الومضة ، وبذلك الرحيق صارت النحلة بدينة كما وصفها الشاعر لابدانة حسية بل بدانة معنوية تشوه الروح الجميلة للنحلة ( الانسان )حين يمتهن الخديعة للبراءة المتمثلة في الزهرة وماتوحي إليه كما أسلفنا .
ثم تأتي الصورة الأكثر مأساوية وهي المعبرة عن الإنكسار والذبول في حياة الزهرة ( الفتاة البريئة ) والركون الى ذل الخديعة والتي رسمتها كلمات وإيحاءات داود الفريح ( تلوي عنقها الى الأرض) ويالها من صور ومعان رائعة ياداود.
$$$$$$
*لتلك النجمة البعيدة،
البعيدة جدا..
يأخذني حبكِ

وهنا يصرح الشاعر بزهوه بهذا الحب
فيرى أن حبها يحلق به بعيداً وجاء (بجداً ) ، ليؤكد بُعد المدى الجمالي الذي يأخذه حبها فيه ، الى نجمة حيث النور المبدد للظلام .
$$$$
*قهوتي سادة
لم يعجبني طعمها
هل لي برشفة من شفتيك!

( قهوتي سادة، لم يعجبني طعمها ، رشفة من شفتيك ) غزل ورومانسية
القهوة ترتشف لكنه جعل ذلك للشفتين مادلالة ذلك ؟ حين جاء بتعبير قهوتي سادة أوحى إلينا بمرارة طعمها لكن الشاعر هنا في حالة انتشاء وهو يجلس الى حبيبته فأراد أن يرتشف شفتيها ليعادل طعم المرارة بشهد الحب فيهما وهذا غزل غاية في الروعة فهو لم يصف شفتيها بالحلوتين
بل صوّر لنا ذلك بطلبه الإرتشاف منهما فالفعل أبلغ من القول كما يقال .
$$$$$$
*ريحٌ عاصفة
امام أعينِ الجميع
تفقد الفزاعة حشمتَها!
ومرة أخرى أراني بعيداً جداً عن معنى الفزّاعة المجرد لاأستسيغ هذه البساطة لأني كما قلت مايهمني المعنى المخبوء وراء الكلمات والذي طالما أجاد الشاعر داود الفريح في تضمينه قصائده .
فالريح العاصفة كناية عن القوة القاهرة التي تسقط الطغاة أمام أعين الجميع
سواء كانت ثورات أم انتفاضات أم قوة خارجية وتريهم زيف جبروتهم وحين ذاك تفقد الفزّاعة ( الطاغية) قدرتها على ارهاب العصافير وتنكشف عورتها ووهن ماتظاهرت به وكرر داود هذا المعنى في اكثر من قصيدة هايكو باسلوب مختلف ليرسخه في شعور المتلقي ويحثه على الرفض وعدم الإستكانة .
$$$$$

*طوال الوقت
مشغولٌ فكري بك
كما لو انني اكتب قصيدة!
شبه الشاعر هنا انشغال فكره بحبيبته
بانشغاله في كتابة قصيدة ولاشك أن المعنى المضمر هو أنه أراد أن يقول لها أنت قصيدتي .
$$$$$$$
*لن يختلفا بشبقهما
عن لقائنا امس
ذبابتان, هذا الصباح!
$$$$$
( شبق ، لقاءنا أمس ، ذبابتان ، هذا الصباح) لم يشأ داود الفريح استخدام حرف تشبيه ليصف الحالة بين ماحصل بالأمس ومايحصل صباح اليوم وكان محقاً في ذلك وحاد الى نفي الإختلاف
بدلاً عن ذلك بحرف النفي ( لن) الذي يفيد الإستقبال ليدلل على ديمومة ماأراد من معنى المشابهة ، ولاأظنه فعل ذلك إلا للتفريق بين طرفي التشبيه وهو حين يختار مثل هذه الصورة الشعرية لايقدم لنا مطابقة في الفعل بل مقاربة في المعنى ، إذ ان الحياة لاتستقيم بلا ذكر وأنثى وأن الرغبة سلوك فطري يدعم الحب واستمرار الحياة .
$$$$
*صباحٌ مشمس
واجماً يراقب ظلَه
رجل الثلج!

( رجل ثلج ، يراقبُ ظلّه ، صباح مشمس ) تراكيب تبدو لأول وهلة بسيطة لكن من المهم الإلتفات للمعنى الذي يريد الشاعر منا أن نفهمه ولو كان المعنى ببساطة هذه الألفاظ لما حقق الشاعر شيئاً ملفتاً ، ولكن من مراقبة الكلمات وتفقّد الإيحاءات نرى أن الشمس التي اعتاد الناس على ان تكون مصدراً للنور والدفء والحياة قد تكون كذلك سبباً في نهاية حياة بعض الأشياء ومنها رجل الثلج الذي ظلّ بوجوم – أي بحزن شديد مع عبوس في الوجه من شدة الحزن – يراقب ظلّه ( موته)الذي يتناقص بسبب الشمس ولعمري تلك صورة معبرة وأخاّذة لمكابدة النهاية أبدعها داود الفريح بخياله الخصب وشاعريته الجميلة .
$$$$

*بلا راعٍ
حول فزاعة الحقل
تجتمع الخراف
(راعٍ ، فزاّعة ، خراف )
حين يختفي من يصلح أن تُطلق عليه صفة الراعي في الحياة وهو الذي يسوس رعيته بالرفق والحرص والحكمة
وتلعب الفزّاعة دوره الوهمي تجتمع الخراف حولها ، وياله من تشبيه لحال الشعوب المضيَّعة ، مسلوبة الإرادة تتبع وهمَ الفزّاعة غير القادرة أصلاً على لعب دور الراعي حقيقة ، وبعد ضياع الراعي تضيع الرعية كما ضاعت الخراف في الحقل باجتماعها حول الوهم ( الفزّاعة).
$$$$

* أحمر شفاه
على حافة الكأس
طعم نبيذ آخر

يأخذنا الشاعر الى عالم رومانسي جميل
تزهو به الألوان وأكاد أرى هذه الصورة بعيني ، أحمر شفاه يرمز الى شفتين لثمتا حافة الكأس يراهما الشاعر في اللون الأحمر المطبوع فيتذوق طعمهما الذي أذهله عن نبيذ الكأس والذي وصفه بالنبيذ الآخر، هكذا يحرك دواد الفريح المشاعر بلغته الشعرية وإحساسه المرهف .
$$$$

* لوهلةٍ
يظنني اضحك
ذلك الذي لا يعرف نبرة بكائي!

نظرة سريعة أولى تجعل من يراني يعتقد بأني أضحك لكنني في الحقيقة وان بدوت ضاحكاً أبكي ، وهنا إشارة الى أن الضحك الذي يحمل في طياته البكاء هو أشد أنواع البكاء وقعاً على النفس وعلى من يتفحص ذلك البكاء بعد أن يغادر الوهلة الأولى الى التدقيق فيما يخفيه الآخر خلف مايُظهره، إنها فلسفة الكلمات التي يجيدها داود
الفريح .

داود الفريح

عادل السرحان
٢٠٢٣/١/١٥

زر الذهاب إلى الأعلى