الإنسان بين الحرية والعبودية: سؤالٌ قديمٌ في زمنٍ جديد

اجنادين نيوز / ANN
د. صلاح حمادي الحجاج
تُعدّ الحرية واحدة من أكثر المفاهيم إشكالًا في الفكر الفلسفي، لأنها لا تُختزل بمعنى واحد ولا تُقاس بقياس ثابت. فالحرية، في جوهرها الفلسفي، هي قدرة الإنسان على توجيه أفعاله بإرادة واعية، بعيدًا عن الإكراه الخارجي أو التحديد القسري الذي يلغي إمكان الاختيار. وهي كذلك حالة وعي، لا تكتمل إلا حين يُدرك الفرد أسباب أفعاله ودوافعه وحدود قدرته وتأثير الظروف المحيطة به.
أما العبودية، فليست مجرد خضوع مادي أو سياسي، بل هي غياب القدرة على الاختيار، أو الارتهان لقوة خارجية أو داخلية تكبّل الإرادة وتمنعها من توجيه الفعل بحرية. وقد يكون هذا القيد قانونًا قاهرًا، أو مجتمعًا ضاغطًا، أو رغبةً مستبدة، أو حتى فكرةً يظنّ الإنسان أنها يقينٌ مطلق، بينما هي في الحقيقة نوع من السيطرة التي تُضعف استقلاله.
ومن هنا يظهر سؤال الحرية والعبودية بوصفه سؤالًا إنسانيًا ممتدًا، يتجدد كلما تغيّرت الظروف وكلما تطور الوعي. فهو سؤال لا يبحث عن تعريف مجرد، بل عن تجربة وجودية يعيشها الإنسان في كل لحظة: هل يتحرك بإرادته، أم تتحركه نابع من قوى أخرى لا يشعر بها؟
ففي البدء لابد ان نتساءل هل نحن أحرار حقًا، أم محكومون بقيود لا يمكن الفكاك منها؟ وإذا كنّا أحرارًا، فكيف نُوصَف بالحرية ووجودنا قد فُرض علينا من دون إرادة مسبقة كما تشير الفلسفة الوجودية؟ وكيف يمكن للإنسان أن يدّعي الحرية وهو واقع تحت سلطة المجتمع وتقاليده، وتحت سلطة رغباته وميوله التي لا يملك التخلص منها بسهولة؟ او حتى إذا تمكن من التخلّي عنها، هل هو تحرّر ذاتيا ؟ أم صورة أخرى من العبودية، بوصف هذا القرار قد صدر عن دافع أو ميل آخر؟.
تتأكد إشكالية الحرية والعبودية حين نرى كيف اختلف الفلاسفة في تحديد معناها. فهناك من ربط الحرية بالمعرفة، معتبرًا أن الإنسان العارف أكثر قدرة على تفسير العالم، وبالتالي أقل خضوعًا لرهبة الجهل. وآخرون رأوا الحرية في الأخلاق، لأن التمييز بين الخير والشر فعلٌ يقوم على وعي حرّ. بينما عدّ فريقٌ آخر الشكَّ أساس الحرية، لأنه يحرّر الإنسان من التسليم لفكر الآخر ويمنحه قدرة بناء قناعاته الخاصة. وهكذا تنوعت الرؤى حتى بدا أن كل تعريف للحرية يُنتج تعريفًا مقابلًا للعبودية عند قلب المعيار، بل كل تعريف للحرية يجعلها ضمن إطار العبودية.
ففي العصر الحديث، تتخذ الحرية ونقيضتها العبودية أشكالًا جديدة تتماشى مع واقع حياتنا المعاصرة. فعلا سبيل المثال أصبحت العبودية ليست مجرد خضوع للقوانين أو التقاليد، بل تشمل عبودية التكنولوجيا التي تسيطر على ساعات حياتنا اليومية، وعبودية الآلة التي صنعناها بأنفسنا وأصبحت تتحكم في أعمالنا وأفكارنا، وعبودية الزمن المهدور حيث ينشغل الإنسان في الانغماس المستمر في واجبات أو متع مؤقتة تفقده السيطرة على لحظاته. هذه الأمثلة توضح أن العبودية ليست مفهوماً تاريخيًا فقط، بل ظاهرة متجددة تتشكل وفق أدوات وقوى العصر.
بينما اخذت الحرية في مفهومها الجديد ابعاد خطيرة بعدما ارتبطت بضرورة التحرر غير المشروط من جميع المقومات الإنسانية سواء كانت اسرية ام مجتمعية وحتى الدينية، فلإنسان الحر وفق هذا المبدأ هو ذلك الذي يتصرف من دون أي رادع، انسان يحق له ان يفعل ما يرغب به دون قيد او شرط وهذا ما نتج العديد من الممارسات الشاذة والدخيلة عن المجتمعات ولاسيما المجتمعات العربية كالتعري وما يرتبط منها من استهلاك الأجساد المقدسة من هنا لابد من ان يكون دو القانون حاسما.
وهنا يظهر سؤال جديد: هل تكون الحرية في غياب القانون، أم في حضوره؟ فغيابه قد يقود الحياة إلى الفوضى، وحضوره الصارم إلى النظام. لكن أيّهما أقرب إلى الحرية؟ الفوضى التي تُضيّع المعنى، أم النظام الذي قد يتحول إلى قيد؟ وفي النهاية، تبقى الحرية والعبودية ليستا مجرد أوصاف خارجية، بل تجربة داخلية يعيشها الإنسان ذاته. لأنه هو من يعرف أن كان يتحرك بوعيه الخاص أم بوعيٍ مزروع فيه، وإن كان حرًا بذاته أم تابعًا لفكرة الآخر، أو حتى لنسخة خفية غير مرئية من العبودية تحت مسمّى اخر للحرية.
إن سؤال الحرية ليس سؤالًا عن العالم بقدر ما هو سؤال عن الإنسان نفسه. فالحرية ليست غياب القيود، وليست الخضوع الكامل للقانون، بل هي القدرة على فهم الذات وفهم ما يحركها. الحرية مشروع داخلي قبل أن تكون واقعًا خارجيًا، ومسار يتطلب وعيًا شجاعًا بما نختار، وما نرفض، وما نظن أنّه خيار. وهكذا يبقى الإنسان معلقًا بين الحرية والعبودية، يختبرهما في كل خطوة، ويعيد تعريفهما في كل تجربة، ليصل في النهاية إلى حقيقة واحدة: أن الإنسان لا يصبح حرًا إلا عندما يعرف قيوده، ويتصالح مع ذاته، ويُدرك أن الحرية تبدأ من الداخل قبل أن تُمنح من الخارج.




