حين تتحول الثقة إلى أداء – قراءة في فلسفة القيادة الصينية المرتكزة على الشعب

اجنادين نيوز / ANN

د. عائده المصري، باحثة وكاتبة إعلامية متخصصة في الحوكمة العالمية والاقتصاد السياسي، بخبرة في إدارة النزاعات وتعزيز مرونة سلاسل التوريد. عضو الاتحاد الدولي للصحفيين الدوليين/كتاب العرب اصدقاء وحلفاء الصين.

خلال الأعوام الأخيرة، تصاعدت الأزمات التي هزّت العلاقة بين الدولة والمجتمع: جائحة أرهقت الأنظمة الصحية، وأزمات مالية عمّقت فجوة الثقة بالمؤسسات، وصراعات اقتصادية أعادت ترتيب موازين القوة. في هذا السياق المليء بالشكوك، أصبحت “الثقة المؤسسية” عملةً نادرة وشرطًا لبقاء الأنظمة السياسية والإدارية. وبينما لجأت حكومات كثيرة إلى حملات تواصل أو وعود إصلاحية لاستعادة الثقة، اختارت الصين طريقًا مختلفًا: أن تجعل الثقة نفسها نتيجة للأداء لا للخطاب.
في كتاب «ماذا وكيف يفكر القائد الصيني»، تتجلى فلسفة شي جينبينغ حول القيادة الشعب-محور باعتبارها ركيزة الحوكمة المعاصرة. يقول في أحد المواضع: «كل إنجاز للدولة لا يكتمل إلا إذا شعر به الناس في حياتهم اليومية». هذه الجملة ليست شعارًا، بل مبدأ إداري يحوّل السياسة العامة إلى تجربة معيشة. فالنجاح لا يُقاس بالخطط، بل بمدى انعكاسها على جودة حياة المواطنين. بهذا المنطق، تتحوّل القيادة من ممارسة للسلطة إلى إدارةٍ للأثر الاجتماعي والاقتصادي.
تُترجم هذه الفلسفة في سلسلة من السياسات الواقعية: القضاء على الفقر المدقع، تعميم التأمين الصحي، وتوسيع البنية التحتية في الأقاليم الريفية. كل ذلك يمثل تطبيقًا عمليًا لمفهوم الشرعية عبر الأداء الذي أصبح من أهم مفاهيم الإدارة العامة في آسيا. فالحكومة الصينية لا تستمد ثقة الناس من التاريخ أو الشعارات، بل من قدرتها على حل المشكلات اليومية. إنها ثقة متجددة بالإنجاز، تُبنى على تفاعل مباشر بين الدولة ومواطنيها.
التجربة الصينية هنا تقترب في جوهرها من تجارب آسيوية أخرى مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، حيث تُربط شرعية الدولة بكفاءتها في تقديم الخدمات العامة وتنظيم الاقتصاد. غير أن ما يميّز الصين هو البعد الأخلاقي والتنفيذي معًا. فالثقة ليست قيمة عاطفية بل مسؤولية إدارية قابلة للقياس. كما يوضح الكتاب، العدالة لا تُقاس بالنوايا بل بالنتائج، والمساءلة لا تُمارس بالكلام بل بالقدرة على تحسين حياة الناس. بهذا يتحوّل الأداء إلى أخلاق مؤسسية، ويصبح النجاح الإداري معيارًا للعدالة الاجتماعية.
ومن اللافت أن هذه الرؤية تلتقي مع الجذر الأخلاقي في الفكر الإسلامي الذي أسس لمبدأ العدل أساس الحكم. كلا التصورين يرى القيادة تكليفًا لا تشريفًا، والمساءلة ركنًا من أركان الاستقرار، لا تهديدًا له. الفارق أن الصين قدّمت ترجمة مؤسسية لذلك المعنى؛ إذ حولت القيم إلى أدوات قياس، والمبادئ إلى نظم متابعة دقيقة. العدالة هنا لا تُنادى بها من المنابر، بل تُنظّم في جداول أداء ومؤشرات واقعية.
هذا الفهم العملي للثقة يتيح للصين تجاوز الثنائية التقليدية بين “الشرعية السياسية” و“الكفاءة الإدارية”. فبدل أن تُفهم الثقة كعقدٍ اجتماعي يوقَّع كل فترة، تُعامل كعمليةٍ مستمرة تُراجع وتُقاس وتُحسَّن. ولعل سر استدامة هذه المقاربة هو أنها تبني على منطقٍ متصل: من ينجز يكتسب الشرعية، ومن يتقاعس يخسرها. في بيئةٍ كهذه، تصبح الثقة رأس مال وطنيًّا لا يقل أهمية عن الموارد الاقتصادية.
ومع ذلك، يدرك الفكر الصيني أن الحفاظ على هذه الثقة أصعب من اكتسابها. فالأداء وحده لا يكفي ما لم يُدعَم بمنظومة انضباط ومساءلة مؤسسية تضمن استمرارية الجودة وتمنع تآكل النزاهة. ولهذا ينتقل الكتاب بسلاسة من مبدأ القيادة الشعب-محور إلى مفهوم الانضباط الإصلاحي الذي يربط بين الرقابة والتحسين؛ فالإصلاح في المنظور الصيني ليس مجرد تصحيح بعد خطأ، بل نظامٌ مستمر لتجنّب الأخطاء قبل وقوعها، وحين تصبح الثقة موردًا عامًا تتحوّل حمايتها إلى واجبٍ مؤسسيٍّ منظم.
بهذا، تُقدّم التجربة الصينية درسًا يمكن أن يهم الإدارات العامة حول العالم: أن الثقة لا تُبنى بالإقناع، بل بالفعل، وأن الدولة التي تربط شرعيتها بالأداء لا تحتاج إلى تبرير نفسها. ومع كل إنجاز ملموس، تتجدد الشرعية تلقائيًا.
لكن هذه المعادلة، كي تستمر، تحتاج إلى عنصرٍ مكمّل: الانضباط كأداة إصلاح، وهو ما سيتناوله المقال التالي في هذه السلسلة، لفهم كيف تحوّلت الرقابة الإدارية في الصين من وسيلة ضبط إلى منهج تطويرٍ مستدام.
* استند هذا المقال إلى قراءة تحليلية في كتاب «ماذا وكيف يفكر القائد الصيني: استراتيجيات شي جينبينغ في قيادة الصين»، تأليف: تشن جيه ومحمد زريق (دار زمكان، بيروت، 2025)، مع تطوير الرؤى المطروحة في ضوء خبرة الكاتبة في مجالات الحوكمة وإدارة النزاعات وسلاسل التوريد العالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى