فرح وطلقة في الرأس ‏

اجنادين نيوز / ANN

بقلم: المحامية حنين علي الأسدي

* تنويه مهم:

‏جميع الأسماء، الشخصيات، التواريخ، والأحداث الواردة في هذه القصة هي من وحي الخيال، ولا تمتّ للواقع بصلة. أي تشابه بينها وبين وقائع حقيقية هو من قبيل المصادفة غير المقصودة.

‏الكثير من الحوادث تصيب المرء في حياته. هناك من يستطيع تجاوزها، وهناك من تسكن في الذاكرة وتعشعش بها، كنسرٍ بنى منزله، وجاءت عاصفة قوية أسقطت العش؛ فحزن النسر على ما جرى. هذه هي الحياة، لا أحد يعلم ماذا يجري معه اليوم أو غدًا، إنها مليئة بعنصر المفاجأة.
‏ما ستقرؤونه الآن صدمة أصابت الجميع، وغيرت مجرى مفهومٍ للحياة.

‏يوم العرس – 1/6/2025 كانت الأجواء مفعمة بالنشاط، بالسعادة والفرح، ضحكاتنا تطفو في المنزل بهذه المناسبة. ها قد وصل أعزاءنا الحضور: أقارب وأصدقاء، لقد حضروا من كل مكان، من محافظات العراق كافة، فهو عرس أخي الصغير، وأبي شخص معروف بحضوره القوي كونه اجتماعيًّا.
‏عمل سابقًا طبيبًا جرّاحًا في السلك العسكري لمدة عشرين سنة، وبعدها طلب إحالته إلى التقاعد، إذ أصبحت حالته الصحية غير مستقرة، لإصابته في القلب. أُجريت له عمليات عديدة، وحمدًا لله استقرت حالته بعد سنة من التعب. الآن، يعمل طبيبًا جرّاحًا في المستشفيات المدنية، وهذا هو سبب سمعته الطيبة بين الناس.
‏أنا ولده الكبير، المدعو “فاضل”.
‏حلّ الليل، قرابة الساعة 8:00 مساءً، وقرب العرس من نهايته. تحمّستُ جدًا لفرح أخي، فذهبتُ إلى غرفتي، فتحتُ خزانتي، وأخرجتُ رشاشة “الكلاشينكوف AK_47”.
‏نعم، مثلما سمعتم: رشاشة.
‏كان أبي واقفًا في باب الغرفة، منعني من الخروج لاستخدامها، كونها تشكّل خطرًا كبيرًا على البشر، لكنني لم أستمع له. أخبرته أنّه فرح أخي “فرقان”، ويجب أن نفرح له بهذه الطريقة، هذه عاداتنا التي تعوّدنا عليها منذ الصغر.

‏الأب (بقلق ممزوج بالتوبيخ): “يا بُني، أتريد أن تُسبّب لنا مشكلة مع المدعوين والجيران؟ إن استخدام السلاح خطراً، وقد يتأذى أحد بسببه.”
‏فاضل (بتودد): “يا أبي، هذا آخر العنقود، ولا بدّ أن نفرح له.”
‏الأب (بحزم): “نفرح له، لكن ليس على حساب غيرنا. لا يجوز يا بُني.”
‏فاضل (بثقة ممزوجة بالعناد): “أنا أتحمّل مسؤولية كل ما يحدث، فلا تقلق، لن أُسبّب أذى لأحد.”

‏خرج فاضل، وأطلق النار في الهواء عدّة طلقات، وقرعوا طبول الفرح فرحًا، ثم دخل إلى المنزل.

‏فاضل (ببرود): “انتبهتُ يا أبي، لم يحدث أي شيء.”
‏الأب: “الله يستر مما هو آت.”

‏بعد نصف ساعة – الساعة 8:30 مساءً عائلة أخرى
‏زين (بحنان واشتياق): “زهراء، ما رأيكِ أن نخرج اليوم، أنا وأنتِ وابنتنا، لنتنزه على الكورنيش؟ لقد مر وقت طويل منذ آخر مرة خرجنا، وفي نفس الوقت نُمتّع ابنتنا الحبيبة، فهي أول فرحة لنا.”
‏زهراء (بفرح): “حسنًا، سأجهّز نفسي وابنتنا في غضون ثوانٍ.”

‏خرج زين وزهراء من المنزل، فرحين، سعداء بابنتهما، كونهم انتظروا قدوم أول مولود لهم طويلًا.
‏بعد سنوات عدّة، جاءت “فرح”؛ أول سعادة، أول فرحة حضرت لحياتهم.
‏نسي زين محفظته، فعاد ليُحضِرها من المنزل، وهذه آخر لحظات السعادة في حياته.
‏عندما خرج، وجد منظرًا لا يُحسد عليه، لدرجةٍ تمنى أن ما رآه كابوسٌ بشع، ويستيقظ منه، ويعود لحياته، لفرح، لابتسامتهم وسعادتهم.
‏وجد ابنته بيد والدتها، مغطاة بالدماء، ووالدتها واقفة دون حراك، دون أن ترمش عين، لا تُحرّك ساكنًا.
‏طلقة احتلّت جبينها الصغير، يداها مرفوعتان على “زهراء”، كأنها تستغيث بها، لكن دون فائدة.
‏غطّت في نومٍ أبديّ.
‏ابنتي الحبيبة “فرح”، بعمر البذرة، تودّع الحياة.
‏بأيّ ذنبٍ، يا الله؟
‏طفلة لا تفقه شيئًا من الحياة، تقع ضحية طلقة طائشة.
‏حملتُ ابنتي بين يديّ، بدمائها الطاهرة، كأنها ملاك صغير لم يتدنّس بظلم الدنيا وبشاعة البشر.
‏اتجهت إلى منزل جارنا، الطبيب الجرّاح، ودموعي لا تتوقف.

‏زين (بانكسار وانهيار وغضب): “هذه نتيجة طلقاتكم قبل قليل. ابنتي فارقت الحياة بسببكم. ما فعلتموه بي لن أنساه ما حييت، وقد اتصلتُ بالشرطة، ستأتي للتحقيق في الأمر. دم ابنتي لن يذهب هدرًا، والشخص الذي تسبّب في أذيتنا سيُحاسب.”
‏ بعد ساعة – 9:00 مساءً الأب (بغضب ممزوج بالخيبة): “أرأيتَ ماذا قلتُ لك سابقًا؟ ألم أطلب منك بوضوح ألّا تطلق النار؟ لكنك لا تُصغي للكلام. انظر ماذا فعلت بتهوّرك! أنت ابني الأكبر، وهذه أفعالك؟ كنتُ ألوم الصغير لأنه متهوّر، لكن اتّضح أنك أكثر طيشًا منه!”
‏فاضل (بصوت مرتجف): “أرجوك يا أبي، ساعدني. لم أكن أقصد إيذاءها. أنا ابنك، وأنت تعرف كم قلبي طيّب.”
‏الأب (بحزم): “احتفظ بكلامك لنفسك يا بُني، فلن يكون بمقدوري مساعدتك هذه المرة. لقد تجاهلتَ تحذيراتي منذ البداية، ولا ملامة على والد الطفلة في لجوئه إلى الجهات المختصّة.”
‏فاضل (بصوت متردد ومليء بالرجاء): “هل أنتَ أبٌ حقًّا؟ ألا تشفق على ابنك؟ أتريد للشرطة أن تأخذني هكذا؟”
‏الأب (بصوت قاسي مليء بالخذلان): “لا أستطيع مساعدتك في شيء. أنا إنسان تهمّني سمعتي، وأهمّ ما أملكه هو احترامي بين الناس، حتى وإن كان ذلك على حساب ابني. لقد حذّرتك منذ البداية، لكنك لم تستمع إلى كلامي. كنتُ خائفًا من حدوث هذا الأمر، وها قد وقع ما كنتُ أتوقعه.”

بعد ساعة – 10:00 مساءً
‏حضرت سيارات الشرطة، وطوّقت المنزل. سأل الضابط بصوتٍ عالٍ:
‏الضابط (بحزم): “تلقّينا اتصالًا من شخصٍ أخبرنا بحدوث إطلاق نار في منزلكم، ونتيجة لذلك توفيت تلك الطفلة المسكينة. من هو المسؤول عن إطلاق النار؟”
‏فاضل (بارتباك ومحاولاً التظاهر بالهدوء): “سيدي، بالتأكيد البلاغ كاذب، الوضع هنا على ما يرام، ونحن فرحون بالعرس.”
‏الطبيب الجراح (بصوت مثقل بالأسى): “لا، سيدي، أنا لا أستطيع أن أكذب عليكم أو أضلّل العدالة. نعم، حدث إطلاق نار هنا في منزلنا، والمتسبّب هو ابني فاضل، هذا الرجل الواقف أمامك.
‏قد كنتُ أعمل في السلك العسكري كطبيب، وأدرك جيدًا مدى صعوبة فقدان الإنسان لابنه أو ابنته. وجارنا ما ذنبه أن يخسر ابنته بسبب طيش ابني؟ لقد حذّرته، وسبق أن نبّهته، لكنه لم يستمع إليّ. يجب أن يتحمّل ابني جزاء فعلته.”

‏الضابط (بحزم ورسمية): “أنت رهن الاعتقال يا سيد فاضل.
‏فعل إطلاق النار في المناسبات داخل المدن بحد ذاته جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969، المادة 495 – ثانيًا، حيث يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على شهر أو بغرامة لا تزيد على عشرة دنانير.
‏وهناك قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (570) لسنة 1982، المادة 1، قد جاء بتشديد العقوبة على إطلاق النار في المناسبات دون إجازة من السلطة المختصة، بعقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات.
‏وسيُصادر سلاحك كونه غير مرخص، وهذه جريمة أخرى: حيازة سلاح بدون رخصة، وستُحاسب أيضًا بموجب قانون الأسلحة رقم (51) لسنة 2017 حسب المادة 24 – ثالثًا، بالحبس لمدة لا تزيد عن سنة واحدة وبغرامة لا تقل عن (500,000) خمسمائة ألف دينار ولا تزيد على (1,000,000) مليون دينار.
‏وبما أنّ رصاصتك أصابت ابنة السيد “زين”، المدعوة “فرح”، وتسببت في قتلها، فهذا يضيف تهمة أخرى في سجلك: الإيذاء بالخطأ، بموجب قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدّل، المادة 411 فقرة 1.
‏وقد تصل العقوبة إلى الحبس أو الغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين، وقد تُشدّد العقوبة في حال حمل السلاح في تجمّعات.”

‏فاضل (بصوت متقطع ومليء بالندم واليأس): “لكنني لم أقصد قتلها! لم تكن نيّتي أن أقتل. أرجوك، ارحمني يا سيّد “زين!”
‏زين (بألم ممزوج بالغضب وعيناه تدمعان): “يجب أن تنال جزاءك. هذه ابنتي، قطعة من روحي، وأنت قتلتها برعونتك وتهوّرك. ولو لم تكن ابنتي هي الضحية، لكان شخصٌ آخر لقي حتفه بسببك. لا بد أن تُحاسب.”
‏الضابط (نبرة رسمية حازمة): “القاضي هو السلطة المختصة بإصدار الحكم النهائي، وما شرحتُه لك هو مجرّد قوانين أساسية. لكن القاضي هو السلطة العليا في تطبيق القانون، وقراره لا رجعة فيه. انتظروا نتائج التحقيقات والقرار النهائي.”
‏ بعد شهرين من خلال إجراء التحقيقات وسماع أقوال الشهود، أصدر القاضي الحكم بحق المدعو “فاضل”:

‏قرار القاضي
‏رقم القرار: 254/2025
‏تاريخ الإصدار: 1/8/2025
‏المحكمة: محكمة جنايات استئناف البصرة

‏بعد اطلاع المحكمة على وقائع القضية، ومراجعة محاضر التحقيق، والاستماع إلى شهادات الشهود، بمن فيهم والد المتهم (الطبيب الجراح)، ووالد الضحية، وبعد دراسة تقرير الطبيب الشرعي، وأخذ اعترافات المتهم “فاضل”، فقد ثبت للمحكمة ما يلي: ‏١. ارتكب المتهم “فاضل” جريمة القتل الخطأ بحق المغدورة “فرح زين”، وذلك بسبب إهماله وتهوّره في التعامل مع سلاح ناري في تجمّع عام، مما أدى إلى إصابتها بطلقٍ ناري أودى بحياتها، وهي جريمة معاقب عليها بالحبس لمدة سنتين وستة أشهر بموجب المادة (411) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدّل.
‏2. ثبت للمحكمة أن المتهم “فاضل” حاز سلاحًا ناريًا نوع (الكلاشينكوف AK_47) دون الحصول على إجازة قانونية، وهي جريمة معاقب عليها بالحبس لمدة لا تزيد على سنة واحدة وبغرامة، بموجب المادة (24) فقرة ثالثًا من قانون الأسلحة رقم (51) لسنة 2017.
‏ ٣. ثبت للمحكمة أن المتهم “فاضل” قام بإطلاق النار في مناسبة عامة، وهي جريمة معاقب عليها بالحبس لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات، بموجب المادة (495) فقرة ثانيًا من قانون العقوبات، والمشدّدة بقرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (570) لسنة 1982.
‏وبناءً على ما تقدّم، قررت المحكمة الحكم على المتهم “فاضل” بـ:
‏1. السجن لمدة سنتين وستة أشهر عن جريمة القتل الخطأ، وذلك بعد دمج العقوبات الأخرى في العقوبة الأشد.
‏2. إلزامه بدفع تعويض مالي قدره 50,000,000 دينار عراقي (خمسون مليون دينار) لذوي المغدورة “فرح زين رغم أن هذا المبلغ رمزي مقابل حياتها”.
‏3. مصادرة السلاح المستخدم في الجريمة.

‏صدر الحكم علنيًّا، بالدرجة الأولى، وهو قابل للتمييز خلال المدة القانونية.

‏القاضي: عدنان القيسي



‏فاضل (بندم وانكسار): “أرجوك، سامحني يا أبا فرح. ما حدث لابنتك يقتلني كل لحظة. أقسم لك، لم تكن نيّتي أن أؤذيها، أو أتسبب في قتلها. أعترف أمامك بتهوّري، بطيشي، بخطئي الفادح الذي لا يُغتفر.
‏والدي حذّرني، حاول منعي، توسّل إليّ أن لا أتسرع، لكنني لم أُصغِ اليه، لم أقدّر كلامه.
‏ليتني أستطيع أن أُعيد الزمن، فقط لأعيش فرحة زفاف أخي، دون أن أكون سببًا في مأساة، دون أن أُطفئ نور طفلتك.
‏أنا آسف… من أعماق قلبي آسف.”
‏زين (بصوت خافت ملئ بالوجع): “ماذا أفعل بأسفك؟ لقد جعلت ناراً تشتعل في قلبي، أخذتُ حق ابنتي عبر القانون، وتحقّق العدل على هذه الأرض، ولا بدّ أن يأتي يوم تتحقّق فيه عدالة السماء، بفضل الله تعالى.”

رسالة توعية:
‏الكثير من الناس يُقدمون على تصرفات متهورة في لحظات فرح، دون أدنى تفكير بعواقبها. يعتبرون إطلاق النار مظهرًا من مظاهر الاحتفال، بينما قد يكون سببًا في كارثة لا تُنسى. رصاصة طائشة واحدة قد تُنهي حياة إنسان، تُطفئ نور بيت، وتزرع مأساة في قلب أسرة كاملة.
‏قبل أن تضغط الزناد، فكّر:
‏هل يستحق الفرح أن يُكتب بدم الأبرياء؟
‏هل لحظة حماسة تبرّر دمار حياة؟
‏تذكّر دائمًا:
‏الفرح لا يكتمل إن كان على حساب الآخرين.
والطيش لا يُغتفر حين يكون الثمن روحًا بريئة.

زر الذهاب إلى الأعلى