شنجن: من بلدة حدودية إلى عاصمة عالمية للابتكار

أجنادين نيوز / ANN

بقلم: ريماس الصينية – صحفية في CGTN العربية

حين يتأمل العالم معجزة الإصلاح والانفتاح في الصين، تبرز مدينة شنجن بوصفها الفصل الأكثر تمثيلا في هذه الملحمة. فعلى مدى أكثر من أربعة عقود، تحولت من محافظة زراعية حدودية لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثين ألف نسمة إلى حاضرة عالمية حديثة يتجاوز عدد سكانها سبعة عشر مليون نسمة، وبلغ حجم اقتصادها مراتب متقدمة بين مدن العالم الكبرى. إن تتبع مسيرة تطور هذه المدينة لا يعني فقط قراءة رموز النهضة الصينية، بل هو أيضا نظرة نحو نموذج مدينة المستقبل.
سرعة شنجن: الأساس الذي بنيت عليه المعجزة
في مطلع مرحلة الإصلاح والانفتاح، اختيرت شنجن لتكون حقل التجارب لسياسات الصين الجديدة، حيث تأسست فيها عام 1980 أول منطقة اقتصادية خاصة في البلاد. ومنذ ذلك الحين بدأت تجربة حضرية غير مسبوقة غيرت وجه الصين الحديث. في تلك الفترة، كانت البنية التحتية ضعيفة، لكن حماسة التغيير خلقت سرعة إعمار مذهلة، تجلت في مشروع بناء برج التجارة الدولية الذي سجل رقما قياسيا حينها بإنجاز “طابق واحد كل ثلاثة أيام”. ومن هنا ولد مصطلح “سرعة شنجن”، الذي أصبح رمزا لروح الريادة والجرأة على كسر التقاليد والسعي الدؤوب نحو التقدم.
خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، كانت المدينة تجذب الطموحين والعاملين من مختلف أنحاء البلاد، وقد آمنوا بشعار “الوقت مال والكفاءة حياة”، ليبنوا معا مدينة جديدة من لا شيء. ولم تكن “سرعة شنجن” مجرد توسع عمراني، بل كانت تجسيدا لمحاولات جريئة في الابتكار المؤسسي. ففيها تأسس أول بنك أجنبي في الصين، وأول بنك تجاري بنظام الأسهم، وصدرت أول سهم في تاريخ الصين الحديث. ومن رحم هذه التجارب خرجت عشرات “الأوائل” التي فتحت الطريق أمام الصين نحو اقتصاد السوق الحديث.
محرك الابتكار: أسطورة الشركات العالمية التي نشأت في شنجن
على هذه الأرض المفعمة بروح الإبداع، ولدت مجموعة من الشركات التي تجاوز تأثيرها حدود الصين. فقصة شركة “هواوي” مثلا تجسد بوضوح مسار المدينة، إذ بدأت كشركة صغيرة لتوريد معدات الاتصالات، ثم تحولت إلى رائدة عالمية في مجال البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأجهزة الذكية. لقد حققت “هواوي” إنجازات غير مسبوقة في تكنولوجيا الجيل الخامس، مما يعكس تحول الشركات الصينية من التبعية إلى القيادة في المنافسة التقنية الدولية، ويجسد مسيرة شنجن من “التصنيع” إلى “الابتكار الذكي”.
أما “تينسنت”، فهي وجه شنجن في عصر الإنترنت. انطلقت من تطبيق بسيط للتواصل الفوري لتصبح اليوم مجموعة عملاقة تشمل مجالات التواصل الاجتماعي، والألعاب الإلكترونية، والتكنولوجيا المالية. ويعد مقرها في منطقة نانشان رمزا لازدهار الاقتصاد الرقمي الصيني ومركزا لريادة الأعمال.
ومن شنجن أيضا انطلقت شركة “دي جي آي”، التي أعادت تعريف سوق الطائرات بدون طيار على مستوى العالم. بفضل تقنياتها الفريدة وتصاميمها المتقدمة، أصبحت تهيمن على حصة كبيرة من السوق العالمية، لتجسد بدقة قدرة شنجن على تحقيق التميز في المجالات المتخصصة ودمج الابتكار مع الصناعة المتقدمة.
كما تعد شركة “بي واي دي” نموذجا لنجاح شنجن في مجال التكنولوجيا الخضراء. بدأت بإنتاج البطاريات، ثم تحولت إلى رائدة في صناعة السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة. إن تحولها هذا يعكس تناغم المدينة مع التوجه العالمي نحو التنمية المستدامة، ويبرز مسؤولية الشركات الشنجنية في مواجهة التحديات المناخية.
ما يجمع بين هذه الشركات جميعا هو أنها نشأت على أرض تقدر الجرأة والابتكار، وتمكنت من الانتقال من الفكرة إلى السوق، ومن المحلية إلى العالمية. إنها ليست فقط أعمدة الاقتصاد الشنجني، بل جسور تصل الصين بالعالم من خلال الإبداع والتجديد.
جودة شنجن: قفزة نحو الابتكار النوعي
في السنوات الأخيرة، أصبح الابتكار المحرك الأساسي لتنمية شنجن. فقد تجاوزت نسبة الإنفاق على البحث والتطوير 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل يفوق متوسط دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وقد أدى هذا الاستثمار إلى ظاهرة لافتة تتمثل في تسجيل مئات براءات الاختراع يوميا في مجالات تشمل الاتصالات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والطب الحيوي، والمواد الجديدة، والطاقة المتجددة.
وتعد منطقة “يويهاي” في نانشان مثالا مصغرا على ذلك، حيث تضم آلاف الشركات التقنية ويطلق عليها “الشارع الأقوى في الصين”، إذ تجاوز عدد طلبات البراءات السنوية فيها ما تسجله معظم دول العالم. لقد أسست شنجن نظاما بيئيا فريدا للابتكار، يجمع بين الشركات العملاقة والمؤسسات الناشئة، وبين المختبرات البحثية ومراكز التصنيع المتقدمة. وتحولت منطقة “هوا تشيانغ بي” الشهيرة، التي كانت في الماضي سوقا للإلكترونيات، إلى مركز عالمي لريادة الأعمال في مجال الأجهزة الذكية، حيث تتكامل حلقات التصميم والتجريب والإنتاج لتشكل دورة ابتكارية مغلقة يصعب تكرارها في أي مكان آخر.
فصل جديد: نحو آفاق أوسع على نقطة انطلاق جديدة
على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، تمضي شنجن في دفع نموذج نجاحها إلى آفاق أعلى. فقد تجاوزت هذه المدينة منذ زمن دور “المنتج” لتتحول إلى مركز عالمي نابض بالحياة للابتكار والإبداع. إن إنجازها الحقيقي لا يتمثل في النمو الاقتصادي وحده، بل في قدرتها على بناء آلية تنموية قادرة على التحفيز الذاتي والتطور المستمر.
جوهر هذه الآلية هو نظام بيئي متكامل للابتكار، يسمح للأفكار أن تتجذر وتنمو وتثمر. فهي لا تعتمد على ميزة واحدة، بل تحقق توازنا فريدا بين حس السوق، والإبداع البحثي، والقوة التصنيعية، ما أوجد حلقة مترابطة ومتكاملة تمتد من الفكرة إلى المنتج النهائي.
قصة شنجن تتجاوز حدود مدينة واحدة؛ فهي نموذج حي يظهر للعالم الطاقة الهائلة التي يمكن أن تنطلق حين يلتقي انفتاح السوق بروح الابتكار الجريئة وقاعدة صناعية راسخة. وفي زمن تواجه فيه العولمة والتطور التكنولوجي تحديات متزايدة، تقدم تجربة شنجن دروسا ملهمة وخبرة ثمينة لكل الدول والمناطق الساعية إلى تحقيق الازدهار والتنمية المستدامة.

زر الذهاب إلى الأعلى