الإنسان ومتاهة (العود الأبدي): من الاستهلاك إلى عبث التكرار

اجنادين نيوز / ANN

الدكتور صلاح حمادي الحجاج

تتكرر بعض الأفكار والمواقف في الوعي البشري كأنها تحاول الإفلات من هذا او ذاك الزمن، لتعود متخفّية في لبوسٍ جديد عبر العصور. ومن بين تلك الأفكار، يبرز مفهوم (العود الأبدي) كواحد من أكثر التصورات الفلسفية غموضًا وإثارة. لكن ما إن ننتقل من تلك الرؤى الفلسفية الماورائية إلى واقع الإنسان المعاصر، حتى يبدو أن “العود الأبدي” لم يعد مجرّد تصور فلسفي، بل واقعًا معيشًا بشكل مُشوَّه: ففي عصر الاستهلاك والصور المعادة بلا نهاية، يجد الإنسان نفسه في تكرار دائريّ لا يولّد المعنى، بل يستهلكه. بعدما ادخله دون وعي، متاهة تكرارية جديدة، حيث تتبدّل الوجوه والمنتجات، لكن الجوهر يبقى ساكنًا في عبثية صامتة، لا خلاص فيها ولا بداية حقيقية. من هنا، تأتي هذه الورقة محاولةً لفهم تمظهرات العود الأبدي ليس بوصفه أطروحة ميتافيزيقية، بل كتشخيص تفكيكي لزمن الإنسان الحديث، الذي يتحرّك في متاهة تبدأ بالاستهلاك وتنتهي في عبث التكرار، بلا معنى ولا انعتاق.
أولًا: الجذور الفلسفية لمفهوم العود الأبدي
لم يكن مفهوم العود الأبدي ابتكارًا حديثًا بقدر ما كان امتدادًا لتصوّرٍ كونيّ قديم، حاول الإنسان عبره أن يفسّر انتظام الوجود وتكراره، بعيدًا عن الزمن الخطي. فقد تصوّرت الثقافات القديمة الزمن لا كمجرى يسير من الماضي إلى المستقبل، بل كدائرة تعيد نفسها باستمرار، حيث كل شيء يعود إلى نقطة البداية في لحظة ما، ليبدأ من جديد.
فالعود الأبدي في الفكر الشرقي وتحديدا في الفلسفة الهندية، يرى ان الزمن دائرة مغلقة تدعى «سامسارا»، وهي دورة لا نهائية من الميلاد والموت والتناسخ. كل كائن حي محكوم بهذه الدورة، ويعاد تجسيده وفق قانون الكارما (العمل والنتائج). ولا يمكن للإنسان أن يتحرر من هذا العود المتكرر إلا من خلال الوصول إلى حالة النيرفانا، التي تُعد نفيًا للرغبة والانفصال عن التكرار ذاته.
اما العود الأبدي في الفلسفة اليونانية، ولاسيما لدى الفيثاغوريين والرواقيين، نجد أيضًا تصورًا دوريًا للزمن: اذ ان الرواقيون، على سبيل المثال، تحدّثوا عن فكرة (إعادة الخلق) عن طريق احتراق كوني شامل، يتبعه إعادة خلق الكون من جديد بنفس التسلسل، وكأن التاريخ يعيد نفسه في كل دورة. – كذلك اعتقد بعض فلاسفة العصر الكلاسيكي أن الأرواح تنتقل عبر أجساد مختلفة، في دورات زمانية مغلقة.
أما (فريدريك نيتشه)، فقد قدّم (العود الأبدي) بشكل مختلف تمامًا بعد او وضعه في إطار وجودي. لأنه لم يكن مهتمًا بإثبات ميتافيزيقي للفكرة، بل بطرحها كسؤال وجودي صادم: اذ يقول «تخيل أن حياتك، بكل ما فيها من تفاصيل، ستُعاد مرات لا متناهية، دون تغيير… هل كنت ستحتمل ذلك؟» هذا التساؤل كان اشبه بدعوة إلى حب القدر وقبول الكينونة كما هي، وهنا قلب نيتشه الفكرة من كونها تكرارًا كونيًا لا معنى له، إلى مسؤولية فردية تجاه كل لحظة نعيشها، بل واعتبر أن الإنسان الأعلى هو القادر على قبول العود الأبدي، لا باعتباره عبئًا، بل كتتويج للحياة، مهما كانت قاسية أو عبثية.
ثانيًا: الإنسان المعاصر والعود الأبدي: من التكرار الميتافيزيقي إلى التكرار المعيشي
إذا كان (العود الأبدي) في تصوّراته القديمة يعبّر عن انتظام كوني أو امتحان وجودي، فإنه في العالم المعاصر قد اتخذ شكلًا آخر تمامًا: لقد تحوّل إلى تكرار يومي معيش، محكوم بقوانين السوق، الإيقاع الاستهلاكي، وصناعة الرغبة، حتى أصبح الإنسان يدور في حلقة لا تختلف كثيرًا عن الدوائر القديمة، لكنها خالية من المعنى، ومرتبطة بـ”اللاوعي الجماعي” الذي أنتجته الحداثة الرأسمالية. فزمن اليوم لم يعد زمنًا يتقدّم، بل زمن يتكرر: – تتكرّر العادات اليومية نفسها. – تتكرّر المنتجات والرغبات في دورة استهلاكية لا تنتهي. – تتكرّر الوجوه على الشاشات، العبارات في الإعلانات، الأغاني في وسائل التواصل. إنها نهاية التاريخ الشخصي، حيث يعيش الفرد وكأنه يُعاد تدويره يومًا بعد يوم، دون أن يصنع معنى خاصًا به. وهنا يمكن تفعيل ما سميه – بدقة – (الدوائر الثلاث) التي تحكم يوم الإنسان وتحوّله إلى ترس في آلة تكرار كبرى وهي:
1. دائرة العمل، ففي هذه الدائرة، يُستهلك الوقت والجهد في أعمال روتينية، غالبًا بلا إبداع أو شغف. تُفصل الذات عن عملها، وتُختزل في وظيفتها، ويُعاد إنتاجها كل يوم على ذات النسق. .
2. دائرة الاستهلاك، وتبدأ بطقوس تفريغ ما جُنيَ من مال في مجالات استهلاكية مكررة: مولات، أسواق، أجهزة، وجبات، منتجات، لا لشيء إلا لـ”شراء الشعور المؤقت بالحياة”، لكنها حياة مستأجرة لا تُنتج وجودًا، بل تُكرّس فراغًا.
3. دائرة اللذة، في نهاية اليوم، تأتي دائرة التسلية أو اللذة السطحية: جلسة مقهى، هاتف محمول، سهرات ترفيه، أو حتى شاشات تبثّ “متعة معلبة”. هذه الدائرة لا تُخرج الإنسان من واقعه، بل تعيده إليه مجهدًا، مستعدًا ليبدأ التكرار من جديد. لقد أصبح الإنسان يعيش عودًا أبديًا مصغّرًا كل يوم، دون وعي ميتافيزيقي أو استفهام وجودي. إنه العود الأبدي بعد نزع القداسة منه، أو كما قد نسميه: “العود الفارغ” — حيث تتكرّر الحياة لا كاحتفال بالكينونة، بل كهروب منها.
ثالثًا: نحو تفكيك العود الأبدي: من عبث التكرار إلى وعي المعنى
إذا كان العود الأبدي، في تمظهراته المعاصرة، قد تحوّل إلى تكرارٍ فارغ، يعيد فيه الإنسان ذاته في دورة يومية بلا معنى، فإن السؤال الحقيقي لا يكمن في كيفية الهروب من هذا التكرار، بل في كيفية اختراقه بالمعنى. التفكيك هنا لا يُراد به التهديم، بل الفهم: أن نُفكك العجلة كي نرى داخلها، ونحاول أن نُعيد توجيهها إن أمكن. إن التكرار في ذاته ليس سلبيًا، فهناك تكرار في الطبيعة، في التنفس، في الاحتفالات، في الصلاة، في النشاطات… لكنه تكرارٌ يحمل روحًا، ويُجدّد ذاته بالمعنى. المشكلة ليست في التكرار، بل في تفريغه من القيمة، وتحويله إلى آلية دون روح. ولهذا يمكن أن نطرح تساؤلًا جوهريًا: كيف يمكن للإنسان أن يُعيد امتلاك تكراره؟ أن يحوّل الروتين إلى طقس، والوقت إلى فعل واعٍ، والاستهلاك إلى اختيار لا إلى خضوع؟ ربما تكون من خلال ما يأتي:
1. العمل كفضاء للإبداع لا للاستنزاف، إن ساعات العمل الطويلة لا يجب أن تكون مجرد “وظيفة”، بل يُمكن – إذا وُجد الوعي – أن تُصبح مساحة للتفاني، للإتقان، للارتقاء الذاتي. حين يصبح العمل تعبيرًا عن الذات المُنتجة لا الذات الخاضعة، يتحول من روتين ثقيل إلى فعل خلّاق، حتى وإن ظلّ يتكرر.
2. جعل الاستهلاك تحت السيطرة: من الحاجة إلى المعنى لا مشكلة في الاستهلاك بحد ذاته، بل في خضوع الإنسان له، وتحوله إلى وسيلة لتسكين الفراغ بدل أن يكون استجابة لحاجة. يمكن جعل الاستهلاك واعيًا، مُرتبطًا بالضرورة، وبأشياء تمنح قيمة، لا تُفرغنا منها.
3. اللذة كحضور، لا كهروب بدل أن تكون دائرة اللذة الليلية هروبًا من يوم فارغ، يمكن أن تُصبح لحظة لقاء، أو تأمل، أو حوار، أو فن، أو استرخاء هادف، تعيد للإنسان توازنه لا تستهلكه.
4. التكرار الواعي = طقس حياة حين نُعيد التفكير في التكرار على أنه طقس يحمل نية، لا مجرّد عادة، يصبح التكرار مساحة للتجدد لا للسقوط في الملل. الصلاة، الكتابة، القراءة، التأمل، حتى الجلسات العائلية، حين تؤدى بروح جديدة، تصبح تكرارًا يخلق المعنى، لا يُفرغه. بهذا المعنى، لا يعود العود الأبدي لعنة أو مصيدة، بل يصبح فرصة لتأكيد الحياة من داخلها. ما نحتاجه ليس الخروج من الزمن، بل زرع المعنى في قلب الزمن نفسه. وما نحتاجه أكثر، هو أن نعيد الإنسان إلى مركز تجربته، لا ككائن مدفوع بالتكرار، بل كفاعل يُعيد تشكيل زمنه، ويكتب على دائرة العود الأبدي ما يشبه البداية.
الخاتمة
في عالم اليوم، حيث تتكرر أيامنا بلا انقطاع، قد يبدو العود الأبدي كعقاب أزلي، يحبسنا في متاهة لا مخرج منها. لكن التأمل العميق يُعلّمنا أن التكرار ليس بالضرورة عائقًا، بل يمكن أن يكون مصدرًا للمعنى والتجديد، إذا ما واجهناه بوعي وإرادة. إن التحدي الأكبر هو أن نحول العمل إلى تفانٍ، والاستهلاك إلى اختيار مدروس، واللذة إلى حضور واعٍ، لنُعيد بذلك بناء علاقة الإنسان بزمنه. وهكذا، لا يعود العود الأبدي مجرد دائرة مفرغة من الحياة، بل يصبح نغمة حياة متجددة تعزفها أرواحنا، في فضاء الحرية والمسؤولية.

زر الذهاب إلى الأعلى