أجنادين نيوز / ANN
بقلم الاستاذة الدكتورة خديجة عللي
متخصصة في العلاقات العربية الصينية / عضو الإتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتاب العرب أصدقاء وحلفاء الصين فرع المملكة المغربية.

المملكة المغربية الشريفة.

على مدار العقود الماضية، شكّلت السياسة الخارجية الصينية حالة استثنائية في المشهد الدولي، حيث بدأت بسياسة انكفائية متحفّظة، قائمة على الحذر من التدخلات الخارجية، لتتحوّل تدريجيًا إلى لاعب دولي نشط يسعى إلى التأثير في بنية النظام العالمي. هذا التحول، الذي بلغ ذروته في عهد الرئيس شي جين بينغ، لا يعبّر فقط عن طموحات اقتصادية متسارعة، بل أيضًا عن رغبة صينية واضحة في لعب دور دبلوماسي فعّال، لا سيّما في مناطق النزاع.

من مبادئ التعايش السلمي إلى دبلوماسية المبادرات
تاريخيًا، استندت الصين إلى “المبادئ الخمسة للتعايش السلمي”، التي أعلنتها عام 1954، وتشمل: احترام السيادة، عدم التدخل، وعدم الاعتداء، والتعاون المتبادل، والتعايش السلمي. ظلت هذه المبادئ تشكّل إطارًا نظريًا لسياستها الخارجية، خاصة تجاه دول الجنوب العالمي، ما سمح لها بتجنّب الصراعات والاحتكاكات الدولية.

لكن مع دخول الألفية الثالثة، وبروز الصين كثاني أكبر اقتصاد في العالم، اتسعت مصالحها وتغيرت أولوياتها. أطلقت بكين عام 2013 مبادرة “الحزام والطريق”، التي تجاوزت كونها مشروعًا اقتصاديًا، لتصبح أداة سياسية ودبلوماسية تعيد تموضع الصين كقوة دولية تُعيد تشكيل خريطة النفوذ، من آسيا إلى إفريقيا وأوروبا.

أدوات مرنة: بين القوة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية
لم تدخل الصين نادي القوى الكبرى من بوابة القوة العسكرية أو التحالفات الصلبة، بل عبر استخدام أدوات مرنة تُراكم النفوذ دون مواجهة. فقد وظّفت بكين الإعلام الدولي، والمنتديات الثقافية، ومعاهد كونفوشيوس، لترويج صورة دولة صديقة، غير استعمارية، ومحايدة. كذلك، استخدمت دبلوماسية التمويل والبنية التحتية، خاصة في الدول النامية، لفتح قنوات نفوذ سياسي غير صدامي.

وتحرص الصين في خطابها الرسمي على تبني نبرة محايدة، تفضّل الدعوة إلى الحوار وحل النزاعات سلميًا، ما يمنحها شرعية رمزية كوسيط نزيه في ملفات معقّدة.

الشرق الأوسط: اختبار الوساطة الصينية
في منطقة الشرق الأوسط، شديدة التعقيد، بدأت الصين تلعب أدوارًا محسوبة في ملفات حساسة، مثل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، والتوترات بين إيران ودول الجوار. وقد نجحت نسبيًا في تحقيق توازن دقيق بين دعمها التاريخي للقضية الفلسطينية، وعلاقاتها الاقتصادية المتينة مع إسرائيل. كذلك، طورت علاقات استراتيجية مع إيران، مع الحفاظ على مسافة آمنة من التورط في الخلافات الإقليمية الحادة.

تستخدم بكين المنصات متعددة الأطراف – كالأمم المتحدة، ومجموعة البريكس، ومنتديات التعاون الصيني–العربي – لتقديم مبادرات هادئة تشجع على الحوار، وتطرح نفسها كبديل عن الوساطات الغربية التقليدية التي غالبًا ما يُنظر إليها بريبة في المنطقة.

التحديات والقيود
رغم النجاحات النسبية، لا تخلو الوساطة الصينية من تحديات. فبيئة الشرق الأوسط متشابكة، تتداخل فيها العوامل الأيديولوجية والدينية والجيوسياسية. كما أن محدودية أدوات الضغط العسكري أو السياسي لدى الصين تضعف قدرتها على التأثير الفوري. يُضاف إلى ذلك الحذر الغربي من تصاعد النفوذ الصيني، الذي قد يقيّد حركتها في بعض الملفات.

ختامًا
ما تقوم به الصين ليس مجرد “دبلوماسية ناعمة” بل هو مشروع استراتيجي طويل الأمد، يعيد تعريف مفهوم الوساطة الدولية. فهي لا تفرض حلولًا، بل تبني علاقات ومصالح، وتراهن على الحياد، والاقتصاد، والرمزية الثقافية، لتتحول تدريجيًا من مراقب إلى صانع قواعد في النظام العالمي.

قد لا تكون بكين اليوم وسيطًا تقليديًا بحجم القوى الغربية، لكنها باتت شريكًا لا يمكن تجاهله، في عالم يسير نحو تعددية قطبية، حيث الكلمة لم تعد فقط لمن يملك القوة، بل لمن يعرف كيف يوظفها بذكاء.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى