“قصة قصيرة” ….طائر الحبيب

اجنادين نيوز / ANN

وحيد غانم

كان الأب يعود بصورة مفاجئة أحيانا، فيلمح وجه أبنته في نافذة غرفتها بالطابق العلوي يتوارى كظل خاطف أو رفّة جناح، بينما شاب في مستهل العشرين يفرّ على دراجته النارية.
وفيما بعد لاحظ تلكؤها عندما تغلق النافذة، انسحاب نظرتها البطيء من الشارع في الأسفل، دقيقة ربما ليعود انتباهها على حضوره في غرفتها ثم تعدّل الستارة بلونها الشذري الذي يبدو طيفيا وجزءا من هالة النهار الحار.
عرف الشاب العشريني الذي يصادفه أحيانا متسكّعا في الأسفل، شعره متدفّق جميل يغوي البنات، وتذكّر أن اسمه عماد، كان يبيع السجائر في صغره، تذكّرٌ اعاد إليه التفكير بحادثة احزنته جرت يومذاك، عندما كانت صغيرته في السابعة، رافقته الفكرة طوال النهار، لو حدّثها فلن تفهم ما يرمي إليه لكن لعلها تتحسّس المعنى ثم تنساه.
منحته ذاكرته شعورا بسيطا أقرب للرؤية، شيئا لم يلتق به غير مرّة واحدة في هذه المدينة، وسيزيد حيرتها بالكلام عنه، لكنه وجد نفسه يدخل حجرتها ويقول” كانت بومة برّيّة”
“ماذا؟ “
التفتت إليه مستغربة.
خطا للداخل واقتعد كرسيا صغيرا في الزاوية جنب منضدة دراستها التي صمّمت لتحمل حاسوبا وتابع” أجل يا ورد! بومة عيناها كبيرتان محاطتان بطوقين كحليّين ورموشهما طويلة دون ان تكون مسبلة كرموش عينيك النجلاوين اللتين اخذتيهما عن امك المرحومة، لا تنزعجي! فلا أقصد ان لك عينا بومة! ”
” بابا!”
استنكرت ضاحكة.
” أسبق لك ان رأيتِ هذا الطائر فعلا او ربما سمعتي نعيقه في طفولتك وضاع من ذاكرتك؟”
كانت ترتدي بيجامة رمادية، جمعت ركبتيها وهزّت رأسها بالنفي وكأنها تستعد لمواجهة توقّع ما. ورَّد الضوء ربشة النمش الخفيفة على خدّيها وأحاط خصلها الملتفّة ووجهها بهالة جميلة.
قبل عشر سنوات وطَنَت بومة على مقربة منه إلى حد أنه اوشك على لمسها وكأنه يحسّ نبض قلبه. نعم، قريبة إلى هذا الحد. هل سبق أن تخطّـى أحد رادار هذا الطائر الوحشي؟ احساسه المرهف القاتل، فكّرَ بالمجسّات التي ستفرضها الضرورة على ابنته، رهافة أدراك الاشياء وتقبّلها او الحذر منها. احزنه ان للربيع مخاطره، لكنه سيخيفها لو منعها من تذوّق لوعة ربيعها المبكر بنفسها.
كانت البومة تعبر سماء الليل، تحملها نسيمات اوائل الخريف مهفهفة رويشات جناحيها الكبيرين البيضاوين إذ تنشرهما وهي تنخفض لدى دنوها من ملاذها في منارة جامع شبه مهجور، العجوز علي واشي سيتذكّرها لو أنه ما زال حيّا أو رآها فعلا بعينيه المضمحلتين وليس من خلال استئناسه بأوصافه لها، حين يهتف مشيرا بيده لدى مرورها، فيرفع العجوز رأسه ويتطلع الى السماء دون تركيز، في الظلام وهما يتقاسمان نومة السطح، ويتشربان هديل الحمام الكئيب الذي يساعدهما على الاخلاد لكوابيسهما. كانت آخر أيامهما الشحيحة قبل النزول والاندفان في الحجرات الخانقة ودخان المواقد.
لم تكن ابنته لتتذكر العجوز” كان عمّا طيّبا يا نور عيني” قال محدّثا نفسه في اليوم التالي. طالما جلب لها العجوز أصنافا من الطعام، روّعته نحافتها فكأنه رأى فيها ما خلفته صورة الحصار الدولي على الأطفال، مع ان الأمر تعلق دائما بمزاج شهيتها، فمضي بجولات طويلة وعاد محمّلا بالأرغفة وحمامات يشويها ليلا وعلب بسكويت.
هرب بصيص النور من عينيه اللتين لم تنطفئا تماما، بدّده احتراقه وسخطه ورغباته المكبوحة، وبقيت له ساقان طويلتان صلبتان، عظمان يكسوهما الجلد المشعر، منحتاه مرونة ساعدته على تسلق الاشجار والنخيل والأعمدة الصدئة وعبور الافاريز والحواجز بين سطوح البيوت القديمة المتلاصقة وسرقة الحمام من بيوته.
ومع سرقاته وهباته أو دونها بلغت ورد السابعة عشر، لم تزل نحيفة، خدّاها طويلان حالمان، بينما تغرق نظرتها في ضباب افكارها، وهي تسير متطلعة بشرود لدى ذهابها وإيابها من مدرستها برفقة صويحباتها، لكنه يعلم أنها تنتبه على الأشياء التي تعنيها، وبفضل صديقاتها والهاتف والتلفاز كان لا بدّ لظل حبّ أن يعبر خيالها ويملأ اماسيها بهجة وتلهّفا، وبدا له أن حبيبها هو نفسه الغلام بائع السجائر، غدا شابا وسيما يلتصق التيشيرت بصدره وخصره الناحل، وفي عينيه نظرة منغقلة تطبع وجهه بالبلادة.
بعد بضعة أيام وسماع منبّه الدراجة يتكرّر مخترقا قيلولته، رغب برؤية السطوح القديمة والمنارة، فظلال الحبّ المسترق اعادته إلى أيامٍ مضت، بينما حثّته ذاكرته على حماية صغيرته، وحينما أطل من الأعلى والنهار يغرب استعاد اللحظة الليلية. لوذ البومة عبر كوّة مقوّسة في أعلى مئذنة الجامع. هجرت أغلب الناس المدينة أثناء نفير الحرب، المؤذن رحل بعائلته إلى أحد الاقضية وشحّ حضور المصلّين فدامت طبعات اقدامهم على غبار البلاطات القديمة.
يغيب العجوز بثوبه الفضفاض أحيانا وتواصل البومة مرورها، اجنحتها كالأشرعة، خطر له يومذاك انهما بومتان وليفتان، ذكر وأنثى، تتناوبان المرور ليلا في الأعالي، وتمنحان صورة لطائر واحدٍ، صامتٍ، فاردٍ جناحيه، تحيطه هالة نور. ليلة بعد أخرى، عبرت البومة تحت ضوء القمر وفي سحابة الغبار المشعّة ونداوة الخريف، مكتشفا على التوالي امتداد جناحيها وجمالهما، وأنه غفل وقتها عن سبب اختيارها مكانا يؤمه البعض في الظهيرات للصلاة والتروّح في حرمه، لكنه اطمأن لوجودها غير المحسوس، فهي ساكنة علّيتها، وسط سريان نهارها وليلها في زمنها الوحشي، تترقب سطوح البيوت المتاخمة التي كانت بعتق الجامع نفسه، آوية أناسا يتمسّكون بها حتى الموت، تتطاير اتربة السطوح حارّة، مغبِّرة اقفاص الحمائم وثيابا وأسلابا صدئة وخزانات ماء. استمالت الروائحُ النتنة والقأقأةُ والهديل البومة، شاركت العجوز تدبّر طعامها كلما شحّ الصيّد، أسهل عليها من التجواب وراء بساتين شط العرب والنهران وأبعد إلى حيث الصحراء.
تذكّر ثمالة العجوز وهو يقول أن من مساوئ المدن انها تجعل الانسان يكدّ لاهثا بينما تعتاد الحيوانات الكسل!
تذكّر وجه العجوز الذي يصبح وحشيّا، محترقا، بعوارض منتفخة، بعد ان تفارقه طلاوة السكر، فيطارد الباعة الصغار ويصفعهم على رقابهم، كانت تدهشه مطاولته على مطاردة بائع السجائر الذي يملك صوتا صيّاحا، يركض العجوز مهدّدا ويفرّ الغلام مطلقا سيل شتائم لاحقت العجوز إلى أبعد مدى، بعدما ابتلعته انقاض البيوت المتراكمة في منطقة العشار.
بعد سنوات ما زال وجه بائع السجائر يثير غيظه، كان خطأه، لكن العجوز لم يلمه يومها، برّر تشوّقه لاكتشاف كنَف البومة وتفهّم الرغبة التي دفعته لتسلق سلّم المنارة الداخلي، تذكّر الأب درجاته الحجرية الملساء التي من آجر البناء ذاته، كان الالتفاف مع سلم حجري ضيق خانقا وتوقّعيا كشعور ينبع من احلام الطفولة، لينتهي إلى حجرة مدوّرة محاطة من الخارج بطوق بارز يحمل مكبّرات الصوت، وهناك اربع كوى تطل على جهات المدينة، رأى أو سمع أولا اصطفافا مهدِّدا ليتبيّن بالتالي الطائر والفراخ، رأى وسمع في آن معا خوفه، لهفته، وحركة البومة المحاصرة بوجوده، صغارها تناوبوا على إطلاق الأصوات ذاتها، رأى بقايا حمام وعصافير وفئران وقشور ونتف فرو وريش، وشعر بعدم الرغبة في التقدم عبر فضائها المتوتّر المحوك بآلاف خيوط التوجّس التي يخفيها وهج النهار، صخب غير متوقع فاجأه، إذ اعتقد دوما ان البوم طائر صامت. كانت قوقة ملتفّة بجناحيها، وأصغر مما تراءت له خلال تحليقها في الظلام.
لكنه لم ينتبه أن بائع السجائر لمحه. حماس سن الهياج والرعونة دفعاه لتعقّب خطاه، متسللا عند صلاة الظهر، ليكتشف مخبأ الطائر في سكينة الأعالي، لعل البومة استشعرت وجوده الحاد واتجهت نحوه محرّكة جناحيها، مصدرة ما يشبه القرقعة، وهي تضرب يمنة ويسرة، فوجد الغلام نفسه وسط امواج خوف عمياء مرهفة، لم تمنعه في النهاية من الانقضاض عليها.
في صبيحة اليوم التالي رآه يعرض ثلاثة من أفراخها في علبة مقوّى، استمالت المارة إذ حسبوها صغار صقر فتوقفوا مستفسرين أو مساومين، حينها ألقى نظرة على الفِراخ المعذّبة تحت الشمس ومضى، فلم يكن بوسعه عمل شيء.
ليلتها لم تمر البومة، استعاد أمسية اختفاء الرؤية البيضاء التي تعبر سماء كوابيسهما. ثمل العجوز علي واشي، صامتاً، شجيّا، مداعبا سيجارته، ربما تمنّى لو أنه صعد إلى أعلى المنارة ومنع الغلام، سيواجه حدقتين عمياوين وهو بالكاد يرى هيأة الطائر في النور الحار الذي يغمر وجهه، صورتان التصقتا بزجاج كأسه، البومة التي لم تعن له طعاما يستحق عناء تسلق السلم الدائري، نادرة ومحاطة بهالة الشفق، ووجه بائع السجائر. عند الفجر عنّ له أن يطلق عقيرته بالأذان، فدوّى صوته مترنّحا وغليظا وكأنه يشتم أحدهم.
” كنت اراها يا ورد تعبر في الاعالي فاردة جناحيها البيضاوين اللذين تحيطهما هالات صفراء وهما يمتدّان مشعّين وكبيرين. ربما اضفت إلى حجمهما من خيالي، فذاكرتي متوتّرة، لكنني لا استطيع يا صغيرتي إلا تذكرها رؤيا سماويةً نقيّةً، لو كان العجوز حيّا لأكد كلامي مع أنه لم يرها”
اغلق باب غرفتها وغادر البيت، سيراها في الصباح تلتحق بمدرستها، نعسة ومتذمّرة كالعادة لألف سبب، ثيابها وحذائها وشرائط شعرها وحقيبتها، بينما يمضي إلى عمله، فيتأخر أحيانا ولا يواجه في إيابه صخب الباعة الصغار وسوّاق الباصات، وفي الليل يتمشّى جنب النهر فتملأ الريح عينيه، تمنّى لو يتسلل ليلاً كما دأب العجوز ليسرق حمامة، في حين يصغي لضحكات الزوجات الصغيرات.
كبر بائع السجائر وأصبح حلم صغيرته، ملاكها الوحشي الذي يتلكأ تحت نافذتها مطلقا منبّه دراجته النارية، وسيما ومعروقا، ولا يقدر على منعه، بينما خيّل إليه ان العجوز يركن في أعلى المنارة، وسط بقايا فرائسه، متحسّسا كل ما يدبّ في الأسفل، لا تراه ذاكرته لكن علّه يحمي ورد من الحبيب الذي يشدّها كل شيء فيه، نظراته ونحافة عظمه وحضوره العنيد.

زر الذهاب إلى الأعلى