الصين وصعود الموجة الهادئة: إعادة تشكيل القوة في القرن الحادي والعشرين

اجنادين نيوز / ANN

بقلم نجيب الكمالي
رئيس دائرة العلاقات العامة بالاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين أصدقاء وحلفاء الصين

في أقصى الشرق، حيث تبدأ الشمس رحلتها اليومية، تتنفس الحضارة من رئتي عصر جديد. فالصين، التي طالما ارتبط اسمها بتاريخ عريق وثقافة ضاربة في عمق القرون، لا تصعد اليوم بخطى الغزاة ولا بمنطق الهيمنة، بل ببوصلة الحكمة وفلسفة البناء الطويل الأمد.

يتميّز الصعود الصيني بأنه صعود بلا ضجيج؛ اقتصاد يتشابك مع العالم كجذور شجرة خضراء تمتد في كل اتجاه، وفكر يتسع كالنهر، وتراث حيّ يندمج بسلاسة مع ضوء التكنولوجيا الحديثة. فالعملاق الآسيوي لا يتعامل مع قوته بوصفها أداة نفوذ فحسب، بل باعتبارها امتداداً لفلسفة تاريخية تؤمن بأن “القوة الحقيقية تكمن في أن تبني… لا أن تهدم”.

لم تعد القوة اليوم حكراً على الدول الكبرى وحدها؛ فالفواعل الجديدة—من شركات التكنولوجيا إلى الجماعات المؤثرة عبر الإنترنت—تتحرك كتيارات تحت سطح البحر، تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية دون أن تُحدث ضوضاء. وفي وسط هذا المشهد المتحرك، تختار الصين موقع العارف؛ تبني جسوراً من التجارة، وشبكات من المعرفة، وتمارس دبلوماسية ناعمة تستند إلى إرث حضاري عميق.

وفي عالم سريع التحولات تتمازج فيه الهويات وتتصادم فيه المصالح، تظهر الصين كمرسى وحركة في الوقت ذاته. فهي ممسكة بجذورها كغصن الخيزران؛ صلب أمام العواصف، مرن مع المتغيرات. تمدد أفكارها كضباب الصباح الهادئ، يملأ المشهد بلا صخب، لكنه يغيّر طبيعة الهواء نفسه. هذه القدرة على الموازنة بين الأصالة والتجديد تمنح التجربة الصينية خصوصيتها؛ فهي دولة كبرى لكنها لا تقدم نفسها كقوة صدام، بل كقوة بناء تعرف كيف تحافظ على جذورها وهي تنفتح على العالم.

ويتحدث القرن الحادي والعشرون بلغة جديدة؛ لغة صيغت من البيانات والذكاء الاصطناعي والشبكات الرقمية العابرة للحدود. وعلى “طريق الحرير الرقمي”، تسطّر الصين حضورها في الاقتصاد العالمي، عبر منصات تكنولوجية عملاقة وشبكات اتصالات وتجارة رقمية وشراكات تمتد عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا، مقدمة نموذجاً للعلاقات الدولية يقوم على التعاون المتعدد الأقطاب لا على المركزية المطلقة، ومحمولاً بروح حضارية تعود لآلاف السنين.

وهكذا، لا تبدو النهضة الصينية مجرد توسع اقتصادي أو تفوق صناعي، بل محاولة لإعادة تعريف مفهوم القوة نفسه. إنها قوة تخلق ولا تستعبد، تؤثر دون أن تفرض، وتمنح العالم نموذجاً مختلفاً؛ نموذج الموجة الهادئة التي لا تحدث جلبة، لكنها تغيّر شكل البحر من أعماقه.

فالصين اليوم ليست مجرد دولة صاعدة، بل تجربة حضارية تُعيد صياغة مستقبل العالم. وبين الضباب الهادئ والموجة العميقة، وبين التكنولوجيا السريعة والتراث الباقي، وبين السكون والحركة، تخط طريقها كإحدى أهم القوى التي ستحدد ملامح القرن الحادي والعشرين.

زر الذهاب إلى الأعلى