الهوية الصينية: بين الجذور الحضارية والتحولات المعاصرة

أجنادين نيوز / ANN
بقلم الأستاذة الدكتورة خديجة عللي المتخصصة بالعلاقات العربية الصينية، عضو الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين أصدقاء وحلفاء الصين فرع المملكة المغربية وعضو الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل
المملكة المغربية الشريفة
تدقيق بهاء مانع شياع
*مقدمة*
تمثل الهوية الصينية واحدة من أقدم وأعقد الهويات الثقافية في العالم، فهي نتاج تراكم حضاري استمر لأكثر من خمسة آلاف عام. تشكّلت هذه الهوية عبر التفاعل العميق بين الفلسفة، والدين، والسياسة، واللغة، والعادات الاجتماعية، مع الاحتفاظ بقدرة ملفتة على الصمود والتكيّف أمام التحولات التاريخية الكبرى. في هذا المقال، نستعرض ملامح الهوية الصينية من خلال تتبع جذورها الفكرية والتاريخية، وعوامل تماسكها، وتحدياتها في العصر الحديث.
أولًا: مفهوم الهوية الصينية
الهوية الصينية ليست مجرد انتماء قومي أو سياسي، بل هي بنية مركّبة تتكوّن من:
منظومة القيم الثقافية (الكونفوشيوسية، الطاوية، البوذية).
اللغة المشتركة (الصينية المندرينية).
الذاكرة الجماعية المستندة إلى التاريخ الإمبراطوري العريق.
الشعور بالاستمرارية الحضارية والتميّز عن “الآخر”.
ولعل أهم ما يميّز الهوية الصينية هو الإحساس العميق بـ”الزمن التاريخي”، فالصيني لا يرى نفسه فردًا معزولًا، بل حلقة في سلسلة حضارية طويلة، ترتبط بالأجداد والتقاليد والإمبراطوريات.
ثانيًا: الجذور الثقافية للهوية الصينية
1. الكونفوشيوسية: الأساس الأخلاقي والاجتماعي
أسس كونفوشيوس (551–479 ق.م) منظومة فكرية تقوم على الأخلاق، والواجبات الاجتماعية، والعلاقات الهرمية المنظمة. وقد ترسّخت هذه التعاليم عبر القرون لتشكّل العمود الفقري للأخلاق والسلوك الصيني، من الأسرة إلى الدولة. مفاهيم مثل:
البر بالوالدين (孝 – شياو)
الولاء للدولة
الانضباط الذاتي
الاحترام للتقاليد
ما تزال حاضرة بقوة في الوعي الصيني، وتشكل ما يشبه “الضمير الجماعي” للمجتمع.
2. الطاوية والانسجام مع الطبيعة
الطاوية، التي نشأت في ذات الفترة تقريبًا، قدمت رؤية أكثر روحانية ومرونة للحياة، وركّزت على الانسجام مع الطبيعة ومبدأ “الداو” (الطريق). أثّرت الطاوية في الفنون، الطب، وحتى الممارسات اليومية، وعززت الميل إلى التوازن والاعتدال في الشخصية الصينية.
3. البوذية ودورها في تشكيل الهوية الدينية
دخلت البوذية من الهند عبر طريق الحرير، وتغلغلت في الثقافة الصينية منذ القرن الأول الميلادي. ومع الوقت، ظهرت مدارس بوذية صينية مميزة، مثل مدرسة تشان (Zen)، التي أضافت بُعدًا روحانيًا جديدًا على الهوية الصينية. ساهمت البوذية في تعزيز قيم الرحمة، التأمل، وفهم الذات.
ثالثًا: الدولة المركزية كمكون من مكونات الهوية
لعبت الدولة الصينية دورًا محوريًا في بناء الهوية الوطنية، عبر:
1. توحيد اللغة والثقافة
منذ عهد أسرة تشين (221 ق.م)، تم توحيد الكتابة والمقاييس والنظم الإدارية، ما رسّخ هوية موحّدة في أقاليم شاسعة ومتنوعة إثنيًا. رغم وجود لهجات ومجموعات عرقية متعددة، حافظت اللغة الصينية المكتوبة على تماسك الهوية الثقافية.
2. النظام الإمبراطوري والبيروقراطية
أسس الإمبراطور “هان” نظام الخدمة المدنية القائم على الامتحانات، وهو ما سمح بدمج الطبقات الاجتماعية في نظام واحد قائم على الجدارة والكفاءة، مما عزز مفهوم الانتماء للدولة بدلًا من الولاء للعشيرة أو القبيلة.
3. مركزية العاصمة والثقافة الإمبراطورية
الهوية الصينية تقليديًا كانت تتمركز حول العاصمة (مثل تشانغآن، بكين)، حيث تتجمع السلطة والحكمة والشرعية. ساهم ذلك في خلق شعور بالوحدة الثقافية تحت ظل “السماء”، وهي فكرة إمبراطورية ذات جذور كونفوشيوسية وروحية.
رابعًا: الهوية الصينية والآخر
1. العلاقة مع “البرابرة”
في الفكر التقليدي، كان الصينيون يرون أنفسهم مركزًا للحضارة، وسمّوا أنفسهم “أبناء السماء” (天子 – تيان زي). وكان يُنظر إلى الشعوب غير الصينية على أنهم “برابرة”، وهو ما خلق شعورًا بالتفوّق الحضاري والتميّز الثقافي.
2. الامتصاص الثقافي بدلًا من الصراع
رغم هذا الإحساس بالتفوّق، فقد عُرفت الهوية الصينية بقدرتها على امتصاص العناصر الخارجية وإعادة صياغتها. فالمغول والمانشو، رغم كونهم “غزاة”، تبنّوا الثقافة الصينية، بل وأصبحوا مدافعين عنها. حتى التأثيرات البوذية والهندية تم دمجها في النسيج الثقافي الصيني.
خامسًا: الهوية الصينية في مواجهة الحداثة
1. صدمة الاستعمار والقرن المهين (1839–1949)
تعرضت الصين في القرن التاسع عشر الى انهيارً سياسيً واقتصاديً في مواجهة القوى الاستعمارية الغربية، والتي بدأت من حرب الأفيون وحتى سقوط آخر أسرة إمبراطورية (تشينغ). هذه الفترة عرفت بـ”القرن المهين”، وطرحت تساؤلات حادة حول الهوية:
هل يجب التمسك بالتقاليد أم تبني النموذج الغربي؟
ما مصير القيم الكونفوشيوسية في ظل التقدم الصناعي؟
ظهرت حركات فكرية مثل حركة 4 مايو 1919 التي طالبت بالإصلاح و”العلم والديمقراطية”، وهاجمت الفلسفات التقليدية بوصفها سبب التخلف.
2. الشيوعية وبناء هوية جديدة
مع انتصار الحزب الشيوعي الصيني عام 1949، بدأت محاولة جديدة لإعادة تشكيل الهوية الصينية على أسس اشتراكية – ماركسية.، وأُعيدت كتابة التاريخ، وتم تقديم “الأمة الصينية” ككيان موحد تحت قيادة الحزب.
لكن رغم ذلك، لم تختفِ الهوية التقليدية، بل استمرت كامنة في السلوك الشعبي، والطقوس، والممارسات اليومية، حتى وإن خضعت للتقنين أو التحوير.
3. الإصلاح والانفتاح (منذ 1978)
في عهد دينغ شياو بينغ، ومع سياسة “الإصلاح والانفتاح”، بدأت الصين بالتحول إلى اقتصاد السوق، وانفتحت على العالم ثقافيًا. ما أعاد تساؤلات الهوية بقوة:
هل الهوية الصينية الآن رأسمالية أم اشتراكية؟
ما العلاقة بين القيم التقليدية والحداثة التكنولوجية؟
كيف تتعامل الهوية الصينية مع العولمة؟
سادسًا: ملامح الهوية الصينية المعاصرة
1. القومية الصينية (Zhonghua Minzu)
تعزز الدولة الصينية المعاصرة مفهوم “الأمة الصينية الكبرى”، التي تضم 56 قومية، تحت هوية جامعة واحدة. يتم الترويج لهذا المفهوم في التعليم، الإعلام، والرموز الوطنية.
2. العودة إلى الكونفوشيوسية
منذ بداية الألفية الجديدة، شهدت الصين عودة قوية للكونفوشيوسية، ليس فقط كموروث ثقافي، بل كوسيلة لتأكيد القيم الصينية في مواجهة القيم الغربية. أنشأت الحكومة “معاهد كونفوشيوس” في أنحاء العالم لنشر اللغة والثقافة الصينية، كما أعادت إحياء الطقوس الكونفوشيوسية في المدارس والجامعات.
3. التكنولوجيا والهوية الرقمية
مع تقدم الصين تكنولوجيًا، أصبحت الهوية الصينية أيضًا رقمية، من خلال التطبيقات، وسائل التواصل، والذكاء الاصطناعي. في الوقت ذاته، تُستخدم هذه الأدوات لتأكيد “الاستقلال الثقافي”، وضبط المحتوى بما يتماشى مع الرواية الرسمية للهوية الوطنية.
*خاتمة*
إن الهوية الصينية ليست مجرد تركيبة سياسية أو إثنية، بل هي نسيج حضاري متكامل تشكّل عبر آلاف السنين من التفاعل بين الفلسفة والدين والتقاليد والتاريخ. لقد أظهرت هذه الهوية قدرة فريدة على التكيّف والبقاء، رغم كل التحديات التي مرت بها، من الغزو والاستعمار إلى العولمة والتغيرات الاقتصادية.
وفي العصر الحديث، تُعيد الصين صياغة هويتها الوطنية عبر الجمع بين إرثها الثقافي العميق وطموحاتها المعاصرة كقوة عالمية. وبينما تواصل الدولة التأكيد على الخصوصية الصينية، يظل السؤال مفتوحًا: كيف يمكن الحفاظ على أصالة هذه الهوية في عالم سريع التغير، دون الوقوع في الانغلاق أو الذوبان الثقافي؟
إن فهم الهوية الصينية هو في جوهره فهم لمعنى الاستمرارية في ظل التغير، ولقدرة حضارة عريقة على إعادة تعريف ذاتها من جديد، جيلاً بعد جيل.