التعليم في تحديات العصر ومنهجياته مقاربة فلسفية، نفسية، وسوسيولوجية

اجنادين نيوز / ANN

باسم قاسم

يُشكّل التعليم الركيزة التي تبدأ منها مسيرة الأفراد والأمم على حد سواء، إذ لا يقتصر دوره على نقل المعرفة بل يتجاوز ذلك إلى تحرير العقل من حالة القصور الذاتي كما رأى كانط، فحين يتم تحدي المتعلم ليفكّر في حل مشكلات حقيقية وتصميم مشاريع تُعالج قضايا مجتمعية كالاتجاه الذي تعتمده فنلندا في صفوف التعلم القائم على المشروعات، ينمو لديه القدرة النقدية والإبداعية على نحو لم يعد يقتصر على الحفظ الآلي. هذه العملية المقترنة بالحركة الجدلية التي وصفها هيغل، حيث تتلاقى عقول المتعلمين مع روح العصر، تتجلى بجلاء في تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حين اختلطت ذاكرة الماضي بمبادئ الديمقراطية الحديثة ليتبلور جيل واعٍ بمسؤولياته المدنية واستقلال القضاء وحريّة التعبير.

في الوقت نفسه نرى أنّ ديكارت بشكّه المنهجي وكوجيتو إيغو سوم أرّخ لمرحلة جديدة في تعليم الأطفال على إيجاد الضوابط المنطقية وتفنيد الحجج، ومن هنا بدأ التوجه في بعض المدارس إلى اعتماد منهج التعليم الفلسفي للأطفال الذي يدربهم على استكشاف الدلالات والافتراضات خلف كل فكرة. وعلى صعيد علم النفس التربوي تبرز أهمية مراحل النمو المعرفي عند بياجيه التي تبدأ من المرحلة الحسّية الحركية وصولاً إلى العمليات المنطقية المجردة، وهو الأساس الذي يقوم عليه التعلم الاستكشافي القائم على تقديم أدلة تجريبية لحل المشكلات بأسلوب ذاتي. كما أنّ مفهوم المنطقة القريبة من النمو الذي وضعه فيغوتسكي يعزز فكرة التعلم التعاوني والتدعيم التدريجي حيث يساعد المعلمون المتعلمين في جماعات صغيرة حتى يصلوا إلى استيعاب كامل بمواضيع صعبة.

يُضاف إلى ذلك منحنى النسيان الذي اكتشفه إبنغهاوس في تجاربه بداية من عام 1885 والذي أسّس لتقنية التكرار المتباعد المعمول بها اليوم في تطبيقات مثل أنكي لتعلّم اللغات والمواد المعرفية، حيث يساعد التكرار المنظم على تثبيت المعلومات بشكل أكثر متانة. ومع الأخذ في الاعتبار الجانب الإنساني يرى إريك إريكسون أنّ الدعم المدرسي عبر الإرشاد النفسي الجماعي يقلّص الأزمات الهوية التي يعاني منها المراهقون، بينما وضع كارل روجرز نموذج الشخص المركز الذي يتيح للطالب مساحة من الاستقلالية ويعتمد الاستماع الفاعل للمعلم ليشعر المتعلم بالأمان ويغذي الدافعية الذاتية لديه.

وبالانتقال إلى البعد السوسيولوجي فإن ما طرحه بيير بورديو من رأسمال ثقافي واجتماعي يوضّح كيف تتحوّل الشهادات والممارسات التعليمية إلى شبكة علاقات وفرص أفضل، الأمر الذي تستدعي مواجهته سياسات العناية التفضيلية لتمكين الطلاب من خلفيات أقل حظاً في الوصول إلى التعليم العالي. وقد وثّق ماكس فيبر أثر الشهادة في ترسيخ الشرعية والموارد ضمن هرم السلطة، بينما دعا هابرماس إلى اعتماد منهج الخطاب في المساحات التعليمية العامة عبر حلقات النقاش والمؤتمرات الطلابية كمدخل لخلق ثقافة حوار ديمقراطي.

وفي محصلة هذه الرؤى المتداخلة ينبغي اعتماد مصفوفة تربط بين مستويات بلوم بدءاً من التذكر والفهم وحتى التطبيق والتحليل والتركيب والتقييم، وبين استراتيجيات التدريس كالتعلم القائم على المشروعات والفصل المقلوب والتعليم القائم على الألعاب، فضلاً عن آليات التقييم التشخيصي والتكويني والختامي مع توفير التغذية الراجعة الفورية ودعم الصحة النفسية عبر مراكز الإرشاد وتطبيق تمارين اليقظة الذهنية، وضمان إنصاف الجميع من خلال تخصيص التعليم المتمحور حول المتعلم لذوي الاحتياجات والفئات المهمشة. إنّ هذه الوحدة الكلية في النظر إلى التعليم من خلال منظور فلسفي ونفسي وسوسيولوجي متكامل تهيئ الأفراد فكرياً ونفسياً واجتماعياً، وتؤسس لمجتمع متماسك وعادل وديمقراطي، يحافظ على استمرارية الثقافة ويتقدّم بروح الابتكار والمشاركة.

زر الذهاب إلى الأعلى