البراغماتية الصينية المعاصرة: إطار تحليلي متعدد الأبعاد في الحكم والتنمية والمجتمع

أجنادين نيوز / ANN
الدكتورة خديجة عللي
متخصصة في العلاقات العربية الصينية
المملكة المغربية الشريفة
في ظل التغيرات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، برزت الصين بوصفها قوة صاعدة تعتمد في سياساتها الداخلية والخارجية على مزيج من البراغماتية والتقاليد الفكرية المحلية. غير أن فهم هذه البراغماتية غالبًا ما يقع في ثنائية التبسيط: إما بوصفها مجرد رد فعل واقعي للضغوط الخارجية، أو امتدادًا للتقاليد الكونفوشيوسية. من هنا تطرح الدراسة الإشكالية التالية:
كيف يمكن فهم البراغماتية الصينية المعاصرة بوصفها نموذجًا عقلانيًا متكاملًا يؤثر في الحكم والتنمية والمجتمع، وليس فقط أداة تقنية ظرفية؟
الملخص
يهدف هذا المقال إلى تقديم دراسة نقدية ومنهجية للبراغماتية الصينية المعاصرة، بوصفها منظومة فكرية مرنة وديناميكية تشكّل الأساس الفلسفي والعملي للحكم في الصين، ولاستراتيجيتها العالمية وتنظيمها الاجتماعي. ويرفض التحليل اختزال البراغماتية الصينية إلى مجرد امتداد للتقاليد التاريخية أو استجابة ظرفية للتحولات الدولية، مسلطًا الضوء بدلًا من ذلك على قدرتها التكيفية العالية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة. وتُفهم البراغماتية هنا ليس كأيديولوجيا جامدة، بل كعقلانية واقعية قائمة على المرونة وصنع القرار القائم على التجريب والنتائج.
البراغماتية الصينية الحديثة خلال القرن العشرين
يستعرض هذا الفصل الكيفية التي تسللت بها البراغماتية الغربية إلى الفكر الصيني، وتحوّلت تدريجيًا إلى تقليد فكري وسياسي صيني مميز طوال القرن العشرين. في ظل انهيار أسرة تشينغ، وحكم أمراء الحرب، وتكرار الغزوات الأجنبية، وتصاعد الاضطرابات الثورية، واجهت الصين أزمة وجود وطنية استدعت البحث عن أيديولوجيات عملية وإصلاحية تكيفية. لم تُستورد البراغماتية إلى الصين بوصفها نسقًا فكريًا متكاملًا، بل خضعت لعملية تفكيك وإعادة تشكيل انتقائية على يد مفكرين وقادة سعوا إلى حلول عملية لملفات التحديث والحكم.
يركز هذا الفصل على شخصيتين محوريتين في هذا السياق: هو شي (胡适) ودنغ شياو بينغ (邓小平) اللذَين، رغم اختلاف سياقاتهما التاريخية ومنهجيتهما، جسّدا توجّهًا براغماتيًا يُعلي من شأن التجريب والمرونة والنتائج الملموسة على حساب الالتزام العقائدي أو النقاء الأيديولوجي..
هو شي والتكييف الفلسفي للبراغماتية الديويّة
-جون ديوي
يُقدَّم جون ديوي (20 أكتوبر 1859 – 1 يونيو 1952) بوصفه من أبرز رموز البراغماتية الأمريكية. شدّد على أن المعرفة تنبثق من معالجة المشكلات في التجربة الحياتية، لا من خلال تأملات مجردة أو حقائق ثابتة. وقد لاقى تركيزه على المنهج التجريبي، والمشاركة الديمقراطية، والتعليم بوصفه أداة للإصلاح الاجتماعي، صدىً واسعًا لدى المفكرين الإصلاحيين الصينيين، خاصة إبان حركة الرابع من مايو.
-هو شي
هو شي (17 ديسمبر 1891 – 24 فبراير 1962)، أحد أبرز تلامذة ديوي في جامعة كولومبيا، أدى دورًا جوهريًا في ترجمة أفكار أستاذه إلى السياق الصيني. تبنّى الدفاع عن اللغة الصينية العامية (白话文) في التعليم والخطاب العام، وسعى إلى دمقرطة المعرفة ونشر الفكر العلمي العقلاني. وناهض الجوانب الميتافيزيقية في الفكر الكونفوشيوسي التقليدي، مع إعلاء قيمة الإصلاح الثقافي التدريجي المبني على الأدلة، بوصفه بديلًا للفكر الثوري الراديكالي.
التكييف الثقافي والفكري
لم يقم هو شي بمجرد استيراد أفكار ديوي، بل أعاد تكييفها استراتيجيًا لمعالجة الانقسام الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي في الصين آنذاك. ركّز على التعليم، والبحث التجريبي، والإصلاح اللغوي كأدوات لبناء وعي مدني حديث. على عكس معاصريه الأكثر راديكالية، مثل تشن دوكسيو وماو تسي تونغ، آمن هو شي بإمكانية تحقيق التغيير عبر مسار تدريجي سلمي، يُقدّم الإصلاح الفكري كمقدمة ضرورية للإصلاح السياسي.
حاول هو شي كذلك التوفيق بين البراغماتية والقيم الأخلاقية الكونفوشيوسية، مدافعًا عن إمكانية إعادة تفسير مفاهيم مثل رِن仁 – الإحسان ولي 礼 – آداب الطقوس ضمن إطار براغماتي حديث، وإن ظل هذا التوليف محدودًا من حيث التماسك المفاهيمي. يكمن إرثه في مساهمته في تأسيس حوار فلسفي صيني-غربي أرسى دعائم الفكر الصيني الحديث على العقلانية العملية والإصلاح بدلًا من الثورة الأيديولوجية.
دينغ شياو بينغ وإعادة بناء الحوكمة عبر البراغماتية
دينغ شياو بينغ
يستعرض هذا المقال سيرة دينغ شياو بينغ (22 أغسطس 1904 – 1997) قبل انطلاق سياسات الإصلاح، مع تسليط الضوء على كيفية بلورته لرؤية براغماتية تستند إلى تجاربه السياسية. بعد فوضى الثورة الثقافية، برز دينغ بوصفه زعيمًا واقعيًا يجمع بين الانضباط الكونفوشيوسي والنهج الاستراتيجي الماركسي، مركزًا على النتائج العملية أكثر من الالتزام العقائدي، كما تعكس مقولته الشهيرة: “لا يهم إن كان القط أسود أم أبيض، طالما أنه يصطاد الفئران.”.
الإصلاحات الاقتصادية والسياسية
في عام 1978، دشّن دينغ سياسة “الإصلاح والانفتاح” (改革开放) التي اتسمت بالتدرج والحذر التجريبي. تضمنت هذه السياسة إنشاء مناطق اقتصادية خاصة في شنتشن وتشوهاي وشيامن، مما أتاح إدخال عناصر اقتصادية رأسمالية تحت إشراف الدولة، وأسهم في تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة.
أعاد دينغ هيكلة المؤسسات المملوكة للدولة لمنحها استقلالية تشغيلية ضمن رقابة مركزية صارمة، ما أفرز نموذجًا هجينًا يجمع بين آليات السوق والتخطيط المركزي. بحلول عام 1992، تم تبني مفهوم “اقتصاد السوق الاشتراكي” (社会主义市场经济) رسميًا، ليجسد المنطق البراغماتي في سياسة الدولة، ويمهّد الطريق لإصلاحات عميقة دون الإخلال بالاستقرار السياسي.
كما ساعدت “المبادئ الأساسية الأربعة” (四项基本原则) – دعم الاشتراكية، قيادة الحزب، الماركسية اللينينية، وفكر ماو – في توفير إطار أيديولوجي يشرعن هذه الإصلاحات الاقتصادية دون الحاجة إلى التحول نحو التعددية السياسية.
الإصلاحات الاجتماعية كامتداد للبراغماتية
لم تقتصر البراغماتية في عهد دينغ على الاقتصاد، بل امتدت لتشمل التعليم والسياسات الحضرية. فقد ساهم إعادة تفعيل نظام امتحان القبول الجامعي (غاوكاو)، وتوسيع التعليم الإلزامي، في تنمية رأس المال البشري الضروري للتحديث الصناعي. كما أسهمت سياسات مثل “نظام المسؤولية الأسرية” في تنشيط الإنتاج الزراعي، في حين تم تخفيف قيود نظام تسجيل السكان هوكو 户口تدريجيًا لإدارة تدفق الهجرة الحضرية.
اتسمت هذه السياسات بالمرونة والاستجابة للنتائج الفعلية، مما يدل على تبني دينغ لنهج حوكمة تجريبي يتسم بالتعديل التدريجي والاستناد إلى ما ينجح عمليًا. في جوهرها، لم تعد البراغماتية مجرد توجّه فلسفي، بل تحولت إلى إطار شامل لإدارة الدولة، يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والتنمية، ويؤسس لشرعية تعتمد على الكفاءة والنتائج أكثر من الالتزام الأيديولوجي.
الأبعاد السياسية والاقتصادية
شي جين بينغ بوصفه تجسيدًا للبراغماتية السياسية
يُقدَّم الرئيس شي جين بينغ، المولود في 15 يونيو 1953، كنموذج معاصر لتجلي البراغماتية الصينية في القيادة السياسية. تعكس سيرته الذاتية مزيجًا فريدًا من الاستمرارية الثورية، والخبرة التكنوقراطية، والرؤية الاستراتيجية المتكيفة مع المتغيرات. فقد أسهمت تجربته الشخصية، لا سيما خلال الثورة الثقافية وفترة إقامته في قرية ليانغجياخه، في ترسيخ وعي عميق بواقع المجتمع، ما أدى إلى تبني نمط قيادي قائم على التقييم العملي والتجربة الميدانية.
تُظهر سياسات شي جين بينغ نهجًا قياديًا براغماتيًا يستند إلى إعادة ضبط الأيديولوجيا وفقًا للمعطيات، والتركيز على تحقيق النتائج الملموسة، بما يتماشى مع منطق الحداثة السياسية الصينية القائم على الكفاءة والشرعية عبر الأداء.
مبادرة الحزام والطريق: البراغماتية في السياسة الخارجية
تُعد مبادرة الحزام والطريق تجسيدًا مؤسسيًا للبراغماتية الصينية على الصعيد الدولي، إذ تمزج (BRI)
بين عناصر تاريخية رمزية (طريق الحرير)، وأهداف اقتصادية استراتيجية (تنويع الأسواق، معالجة فائض الطاقة الإنتاجية)، ونهج دبلوماسي واقعي. لا تُقدَّم المبادرة كمشروع بنية تحتية تقني فقط، بل كأداة جيوسياسية مرنة تُبرز القدرة الصينية على توظيف السرديات التاريخية في دعم الشرعية الخارجية وتعزيز النفوذ.
وتُبرز آليات التمويل، كالبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) وأطر التعاون الثنائي، سلوكًا ماليًا عقلانيًا يدير المخاطر ويعزز القوة الناعمة دون صدام مباشر. كما يُشير تطور مبادرات مثل طريق الحرير الرقمي والحزام والطريق الأخضر إلى استعداد الصين للتكيّف مع التحديات المعاصرة كالتقنيات السيادية والحوكمة البيئية، ما يعكس جوهر البراغماتية التكيفية كأداة متوازنة بين المصالح الوطنية والانخراط الدولي.
الأبعاد المجتمعية والثقافية
البراغماتية اليومية والسلوك الاجتماعي
يتناول هذا القسم تجليات البراغماتية في الحياة اليومية، بوصفها نمطًا أخلاقيًا وسلوكيًا راسخًا يتجاوز النخب السياسية. يُستدل بمفهوم “الوجود كالماء” المأخوذ من الفلسفة الطاوية كاستعارة لسلوك اجتماعي يتسم بعدم المواجهة، والمرونة، والتكيف مع المحيط. تُمثّل الممارسات اليومية – كتجنب الصدامات العامة، والتنقل الفطري في الفضاءات الحضرية المكتظة – عقلانية اجتماعية تؤمن بالاستقرار وتُراعي التنظيم غير الصريح للنظام العام، حتى ضمن ظروف اجتماعية شديدة التعقيد.
التعليم وثقافة النجاح
يُطرح نظام التعليم في الصين بوصفه ساحة مركزية لتجليات البراغماتية المجتمعية، حيث يُنظر إلى المعرفة باعتبارها وسيلة لتحقيق الحراك الاجتماعي والأمن الاقتصادي. يمثّل امتحان القبول الجامعي الوطني (غاوكاو) ذروة هذا المنطق النفعي، إذ تُفضَّل مجالات مثل العلوم والتكنولوجيا والهندسة على العلوم الإنسانية، ويُنظر إلى الدراسة في الخارج كاستثمار في رأس المال البشري.
كما تُظهر العلاقات العائلية والدافعية الطلابية هذا الطابع العملي: فالتعليم يُنظر إليه بوصفه وسيلة لتعزيز المكانة الاجتماعية والدخل الوظيفي، مما يؤدي إلى تشكُّل “ثقافة نجاح” تُقاس فيها القيمة الفردية عبر مؤشرات اقتصادية واجتماعية..
الاستقرار والشرعية القائمة على الأداء
يُختتم هذا المحور بتحليل العقد الاجتماعي الضمني في الصين المعاصرة، حيث تقبل الجماهير محدودية الحريات السياسية في مقابل ضمان الاستقرار المادي والتقدم الاقتصادي. تُؤسَّس الشرعية السياسية هنا على نتائج ملموسة لا على انتماءات أيديولوجية، كما يتجلى في مشاريع البنية التحتية، وتخفيض معدلات الفقر، وتحقيق معدلات نمو مرتفعة.
تشكّل البراغماتية في هذا السياق قوة استقرار سياسي واجتماعي، حيث يُستعاض عن الالتزام الأيديولوجي بالتسوية العملية، ويُعزز التماسك الاجتماعي عبر الأداء والكفاءة بدلاً من القسر أو العقائد.
الخاتمة
تُبرز هذه الدراسة أن البراغماتية الصينية ليست مجرد استجابة ظرفية، بل نموذج عقلاني مرن يجمع بين الواقعية السياسية والخصوصية الثقافية، ويُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع في سياق التحديث المستمر. لقد مكّنت هذه البراغماتية الصين من تجاوز الكثير من التحديات الداخلية والخارجية، من خلال التركيز على النتائج، والتدرج، والتكيّف، بدلاً من الانخراط في تحولات أيديولوجية جذرية.
غير أن هذا النموذج، رغم نجاحاته، يواجه اختبارات حقيقية في ظل التعقيدات العالمية الراهنة، كتصاعد المنافسة الجيوسياسية، وتفاقم التفاوت الاجتماعي، وتحديات الابتكار والتكنولوجيا السيادية.
من هنا، تقترح الدراسة عددًا من التوصيات لمواصلة تطوير هذا المسار:
تعميق النقاش الفلسفي حول البراغماتية الصينية بوصفها عقلانية متميزة، لا مجرد مرادف للواقعية السياسية، وذلك عبر مقارنتها النقدية بنماذج أخرى من الفكر البراغماتي العالمي.
تعزيز الشفافية وتوسيع المشاركة المجتمعية بشكل تدريجي، بما ينسجم مع منطق الكفاءة والأداء، ويعزز من شرعية النظام السياسي دون المساس بالاستقرار.
تطوير أدوات تقييم البراغماتية على المستوى الاجتماعي، خصوصًا في مجالات التعليم، والثقافة، والتنقل الطبقي، لضمان أن تبقى هذه العقلانية نافعة ومنفتحة على التنوع لا مقيدة بالأداء الاقتصادي فقط.
الاهتمام بالتحولات الثقافية الناشئة لدى الأجيال الشابة، التي قد تُعيد تعريف العلاقة مع الدولة والمجتمع، وتفرض على النموذج البراغماتي تحديات تأويلية جديدة.
توسيع الأطر البحثية المقارنة بين البراغماتية الصينية ونماذج أخرى للحكم في جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية، مما يسمح بفهم أعمق للطابع المحلي والعالمي في آنٍ معًا لهذا النموذج.
بهذه الرؤية، لا تُفهم البراغماتية الصينية كمجرد أداة لإدارة الواقع، بل كإطار فلسفي وسياسي قابل للتطوير والنقد، ما يجعلها موضوعًا مفتوحًا لحوار فكري عالمي متعدد الابعاد.