عيد الغدير… دعوة لتجديد العهد بنبذ التطرف ونشر ثقافة التسامح

اجنادين نيوز / ANN
بقلم: محمد عباس عساف
يطلّ علينا عيد الغدير الأغر، مناسبة دينية عظيمة يستذكر فيها المسلمون حادثة غدير خم، حيث وقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجّة الوداع، مخاطباً آلاف الحجاج معلناً: “من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه”. لم تكن كلمات عابرة، بل إعلاناً يحمل في طيّاته معاني الولاية، والاستمرارية، والمسؤولية، في مشهد اتحد فيه الزمان والمكان ليؤسس لمرحلة جديدة في مسيرة الأمة.
إنّ عيد الغدير، بعمقه التاريخي والديني، لا يجب أن يُقرأ فقط في سياقه العقدي، بل في بُعده الإنساني والحضاري، كمنطلق لتعزيز مفاهيم الوحدة والعدل، ونبذ التفرقة والتطرف. فهذه المناسبة، التي جاءت في نهاية حجّة الوداع، أمام أكبر تجمع للمسلمين، لم تكن إعلاناً لطائفة أو مذهب، بل تأكيداً على وحدة الرسالة وامتدادها عبر من يمثل قيمها ويحمل نهجها في تطبيق العدل والرحمة والوسطية.
حديث الغدير لم يكن صوتاً للتفرقة، بل درساً بالغاً في مواجهة الانقسام الذي لطالما كان سبباً في ضعف الأمة، وتحوّلها إلى هدف سهل لأعدائها. ومن هذا المنطلق، فإنّ التطرف، بكل أشكاله، يُعد انحرافاً عن جوهر الرسالة الإسلامية، لأنه يغذي الكراهية، ويعزز العنف، ويصنع الفجوات بين المسلمين وأبناء الديانات والمذاهب الأخرى.
إنّ الإمام علي عليه السلام، الذي نُصّب في الغدير ولياً للمؤمنين، كان نموذجاً للتسامح والعدل، قائلاً: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، في رسالة واضحة إلى أن الاختلاف لا يبرر العداء، بل يحث على الحوار والتفاهم واحترام الآخر.
من روح الغدير نستحضر قيم الاعتدال، التي أكّد عليها القرآن الكريم بقوله: “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً”، وندرك أنّ طريق الوسطية هو الحصن المنيع في وجه الانحراف، سواء باتجاه الغلو أو التفريط. كما أن الحكمة والموعظة الحسنة، التي كانت عنواناً لخطاب النبي في الغدير، تمثل أدوات أساسية لنشر ثقافة السلام، بعيداً عن أي خطاب عنف أو تكفير أو إقصاء.
لقد مثلت سيرة الإمام علي تطبيقاً عملياً لمبادئ العدالة، حتى مع خصومه، ما يجعل من الغدير مناسبة لتجديد الإيمان بأن العدل لا يُجزّأ، ولا يتبدّل حسب المصالح أو الانتماءات. كما أن الغدير لم يكن إعلاناً قسرياً، بل دعوة حرة مفتوحة، احتراماً لمبدأ “لا إكراه في الدين”، لتؤسس بذلك ثقافة قبول الآخر كأحد ركائز التعايش السلمي.
ومن هذا المنطلق، فإنّ الولاية الحقيقية التي أُعلنت في الغدير، هي ولاية رحمة ومسؤولية، لا ولاية استبداد أو إقصاء. هي ولاية تسامح ديني، تكرّست في تعامل الإمام علي مع أتباع الديانات الأخرى في دولته، وتسامح مذهبي، يتجلى في احترام الآراء والاجتهادات ضمن الإطار الإسلامي، وتسامح اجتماعي، يرى في كل إنسان قيمة وكرامة تستحق العدل والرحمة.
إنّ عيد الغدير، بما يحمله من معانٍ إنسانية وإسلامية عميقة، يمكن أن يكون منطلقاً لخطاب تسامحي جامع، يواجه الكراهية بالحجة، والعنف بالكلمة الطيبة، ويكرّس ثقافة الحوار داخل المجتمعات الإسلامية ومع العالم أجمع. هو فرصة لترسيخ الوحدة الإسلامية على أساس المشترك لا المختلف، ولتجسيد قيم الإسلام الأصيلة التي ترفع الإنسان وتُعلي شأن كرامته.
ليس عيد الغدير مجرّد ذكرى نحتفل بها، بل عهد يتجدّد فينا كل عام، ومسؤولية أخلاقية نُحاسب عليها أمام الله وأمام أنفسنا. إنّها محطة تستنهض فينا الضمير لرفض التطرف والكراهية، وتغذية قيم الرحمة والتسامح. فلنجعل من هذه المناسبة منطلقاً عملياً لبناء مجتمعات يسودها العدل والسلام، ويتحقق فيها قوله تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”.