غزة تعيد ترتيب وعي العالم

اجنادين نيوز / ANN
بقلم الكاتب فادي داوود البرغوثي عضو الاتحاد الدولي للصحفيين و الاعلاميين والكتاب العرب اصدقاء وحلفاء الصين
ثمة لحظات نادرة في التاريخ تعيد تعريف القيم، وتزعزع المسلمات، وتفرض على العالم أن يحدّق في مرآته من جديد. ما يحدث في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 ليس مجرد حرب، ولا هو استمرار مأساوي لصراع طويل، بل هو لحظة كشف. لحظة تتقاطع فيها الوحشية مع الحقيقة، ويتهاوى فيها التماسك الأخلاقي للنظام الدولي أمام صلابة الضحية، التي لا تملك شيئًا سوى دمها وقدرتها المذهلة على الصمود .
لأكثر من سبعة عقود، هيمنت سردية صهيونية على المخيال السياسي الغربي، صُوّرت فيها إسرائيل كدولة قائمة على الحداثة والديمقراطية، بينما قُدّم الفلسطيني كعائق أمام التقدم، ومصدر تهديد دائم. استعمرت هذه الرواية العقل السياسي الغربي، حتى بدت وكأنها جزء من بنيته التأسيسية، تدعمه دول استعمارية سابقة لا تزال تصرّ على دورها في تحديد من هو الضحية ومن هو الجلاد. لكن غزة، بما قدمته من شجاعة غير مسبوقة في مواجهة آلة القتل، زلزلت هذا الوعي المقولب، وفتحت الباب أمام مراجعة فكرية عميقة لما كان يبدو محسوماً .
إن المجازر التي بثتها شاشات الهواتف لا تترك مجالًا للإنكار أو التبرير. لم يعد بالإمكان الاحتماء بخطابات دبلوماسية مائعة، ولا بالاستشهاد المضلل بمفاهيم مثل “حق الدفاع عن النفس”. كل صورة لطفل تحت الركام، كل صرخة أم تودّع أبناءها، وكل مستشفى مدمّر، كانت بمثابة قطيعة مع سردية استعمارية فقدت قدرتها على الإقناع. هنا، تتحول غزة من مكان جغرافي صغير محاصر إلى مركز رمزي لإعادة تشكيل الوعي الكوني حول مفاهيم العدل، والحق، والمقاومة، والدولة، والضحية.
المفارقة أن هذا التحول لم يأتِ نتيجة انتصار سياسي أو عسكري، بل نتج عن انكشاف الحقيقة الخام، غير المصنّعة، وغير المفلترة. الحقيقة التي تأتي مباشرة من الميدان، من ركام البيوت، من أفواه الناجين، ومن اتساع الهوّة بين ما تدّعيه الديمقراطيات الغربية، وما تمارسه فعليًا حين يتعلق الأمر بإسرائيل. وفي هذه الهوّة بالتحديد، بدأ يتشكل وعي جديد، شعبي قبل أن يكون نخبويًا، يرفض الاصطفاف الأعمى مع دولة تمارس الإبادة، ويطالب بإعادة الاعتبار للقيم التي تم تسليعها.
ما يثير الانتباه في هذا التحول ليس فقط تصاعد الأصوات في الشارع الغربي، بل بدء تململ في مواقف بعض الحكومات، مثل كندا وإسبانيا وأيرلندا، التي دعت إلى وقف الحرب، وإدخال المساعدات، والاعتراف بالدولة الفلسطينية. هذا الحراك الرسمي لا يزال هشًا ومترددًا، لكنه يعكس تصدعًا في التماسك الأخلاقي القديم، ويشير إلى أن بنية الهيمنة الغربية لم تعد قادرة على ضبط سرديتها بنفس الصرامة السابقة.
غزة، في هذا السياق، لم تعد “قضية”، بل أصبحت فعلًا فلسفيًا، مقاومةً رمزية تتحدى المركز من الهامش. إن انكشاف العنف الإسرائيلي الممنهج، الذي لم يعد يُمارس في الظلام بل تحت ضوء العالم، أعاد تعريف معنى “الشرعية”، و”الدفاع”، و”الحضارة”. لقد فجّرت غزة أسئلة كبرى عن العلاقة بين الأخلاق والقوة، بين الإنسان والمنظومة، بين المستعمِر وسرديته.
هكذا، لم تعد إسرائيل تواجه مقاومة مسلحة فحسب، بل تواجه أزمة وجودية في صورتها أمام العالم. لم تعد محمية بالكامل بظل الغرب، ولا محصّنة ضد النقد. وكل قذيفة تسقط على غزة، تسقط معها لبنة من جدار الوهم الصهيوني الذي بُني بعناية لعقود. في زمن تتداخل فيه الحقيقة مع التضليل، وتضيع فيه البوصلة الأخلاقية تحت ركام المصالح، تقف غزة كمحرّك لإعادة بناء وعي عالمي جديد. وعي أكثر عدالة، أكثر صدقًا، وأقل خضوعًا لسطوة الإعلام المُسيطر عليه. ولعلّ الأهم، أنه وعي قادم من القاع، من الضحية، من الذين لا يملكون سوى صوتهم ودمهم وصموده.
لذلك، يمكن القول بلا تردّد: غزة لا تعيد فقط تعريف الصراع، بل تعيد ترتيب المعنى. تعيد ترتيب الإنسان، حين يواجه العدم بحقيقته. وتعري نظامًا دوليًا يدّعي التحضّر وهو صامت أمام المجازر. غزة، بهذا المعنى، ليست في مواجهة مع إسرائيل وحدها، بل في مواجهة مع عالمٍ انحرف عن قيمه، وآن له أن يستفيق.