ونزهو الصينية: فن ‘صناعة المال’ وجذورها الفلسفية وتطبيقاتها في الشرق الأوسط

اجنادين نيوز / ANN

د. عائده المصري، عضو الاتحاد الدولي للصحفيين والاعلاميين والكتاب العرب اصدقاء وحلفاء الصين، فرع الصين.

وأنا أحزم أمتعتي مغادرةً ونزهو، لم أكن أغادر مجرد مدينة صينية أخرى. كنتُ أحمل معي حمولات زائدة من الأفكار التي تتزاحم في عقلي، تماماً كما تتزاحم حاويات الشحن في موانئ العالم. بخلفيتي المتنوعة التي تشمل العمل الحكومي والقطاع الخاص (في منطقة مثل الشرق الأوسط)، ومعرفتي المعمقة بكيفية عمل سلاسل التزويد المعقدة وشرايين التجارة الدولية، كنتُ أبحث هنا عن شيء يتجاوز الواجهات اللامعة أو الأرقام القياسية. كنتُ أبحث عن السر؛ السر وراء هذه الديناميكية التي جعلت من اسم “ونزهو” مرادفاً للريادة العالمية، ومثيراً للفضول كظاهرة تستحق الدراسة والتمحيص.

إن أرقام هذه المدينة تتحدث عن نفسها وتؤكد حجم الظاهرة التي نتناولها؛ فالناتج المحلي الإجمالي لوينزهو بلغ حوالي 971.9 مليار يوان صيني في عام 2024، وهو ما يعكس نمواً ملحوظاً يؤكد حيويتها الاقتصادية. والأهم من ذلك، أن القطاع الخاص فيها يلعب دوراً محورياً ومُحركاً أساسياً، حيث شكلت صادرات الشركات الخاصة حوالي 95% من إجمالي صادرات المدينة في عام 2023، مما يؤكد أن الديناميكية التي نتحدث عنها تتجسد بقوة في المبادرات الفردية والمؤسسات الخاصة التي تُعد ونزهو “مهدها” في الصين.

ما لمستُه في ونزهو لم يكن مجرد “بزنس” عادي، بل هو فن البزنس بحد ذاته، فنٌ برع فيه أبناء المدينة حتى عُرفت بقدرتها على “صناعة المال”. هي ليست فقط مصدراً للمنتجات، بل هي مصنع للمهارات؛ مهارات “كيف تصنع المال” التي تتوارث وتُصقل بالتجربة العملية اليومية. إنها قدرة فطرية على تحديد احتياجات السوق العالمية وتلبيتها بسرعة مذهلة، وبناء شبكات تجارية عالمية متشعبة غالباً ما ترتكز على الثقة والشبكات العائلية والمجتمعية. من منظور إدارة سلاسل التزويد، الأمر أشبه برؤية نظام بيئي يتسم بالمرونة والقدرة على التكيف والبقاء، متجاوزاً في كثير من الأحيان العقبات البيروقراطية التي قد تعيق الحركة في بيئات أخرى. برعت ونزهو بشكل خاص في صناعات محددة مثل الأحذية (التي شكلت ربع إنتاج الصين وثُمن إنتاج العالم في عام 2021)، المحابس والمضخات، المعدات الكهربائية منخفضة الجهد، والولاعات وغيرها من السلع الصغيرة التي وجدت لها “أسواقاً كبيرة” عالمياً بفضل هذه المهارات.

ولفهم الجذور العميقة لهذه الروح الريادية التي تميز ونزهو، يجدر بنا الإشارة إلى التاريخ الفكري للمدينة. لقد تشكلت روح المبادرة فيها وتاريخها بفعل الفلسفات البراغماتية لمدرسة فكر يونغجيا. هذه المدرسة التاريخية لم تركز فقط على الجوانب النظرية، بل قدمت منظوراً عملياً يرى أن التجارة والنشاط الاقتصادي ليسا مجرد أنشطة دنيوية، بل جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي ويمكن أن يسهما في تحقيق الازدهار. هذا الأساس الفلسفي العملي قد يكون أحد الأبعاد الهامة التي تفسر لماذا يمتلك أبناء ونزهو هذه العقلية التجارية المتأصلة والموجهة نحو تحقيق النجاح المادي من خلال العمل والمبادرة.

للكشف عن بعض جوانب هذا “السر” من قلب الميدان، كان لي حديث مع إحدى قياديات شركات ونزهو، والتي قدمت رؤية عملية ومباشرة: السر يكمن، من وجهة نظرها، في العمل الجاد والمتابعة الحثيثة والمباشرة من قبل المسؤولين، فنحن لسنا مجرد قادة ألقاب وبرستيج، بل نحن في قلب العمل نتابع أدق التفاصيل. هذه الشهادة من قلب الميدان تلقي الضوء على ثقافة عمل لا تعرف الكلل، وتركز على النتائج من خلال الانخراط المباشر والإشراف الدقيق.

غير أن الملاحظات التي رصدتُها في المحافل الدولية التي جمعتني بهم تقدم جانباً آخر يستحق التأمل. فبينما كان حضور ممثلي الشركات قوياً للغاية، ويتسم بالحيوية والاستعداد للانخراط والمتابعة، تجلى ذلك حتى في حرصهم على التواصل الفعال عبر مختلف المنصات الرقمية – وهو ما لمستُه شخصياً بتلقي طلبات متابعة لأول مرة عبر لينكدإن وتويتر وفيسبوك من جانبهم كدلالة على هذا الانخراط؛ لوحظ في المقابل مغادرة بعض قادة المدينة الرسميين بسرعة بعد انتهاء الجزء المباشر من فعاليات المؤتمر، كما أن حضورهم الرسمي في الأنشطة اللاحقة لم يكن بنفس الوضوح أو الاستمرارية التي قد تُلاحظ في سياقات دولية أخرى تتطلب تفاعلاً مؤسسياً مستداماً.

هذا التباين يبرز أن الديناميكية العالية والانخراط المباشر على مستوى الشركات والذي يستحق الإشادة، يقابله -في هذا السياق المحدد- وتيرة مختلفة على المستوى الرسمي. وهذا يقودنا إلى نقطة جوهرية لا يمكن تجاهلها في عالم التجارة الدولية، وهي أنها ليست مجرد صفقات بين شركات، بل هي منظومة معقدة تعتمد بشكل أساسي على البيئة التمكينية والتسهيلات التي توفرها الجهات الرسمية والحكومية، وهو ما يدركه جيداً أي رجل أعمال دولي يسعى لشراكات طويلة الأمد. قوة العلاقات على المستوى المؤسسي والرسمي، وتوافر المعلومات الدقيقة، وسلاسة الإجراءات، والتمثيل القوي للمصالح التجارية على الساحة العالمية، هي عوامل حاسمة لنجاح واستدامة التبادل التجاري والاستثماري.

من هذا المنطلق، ورغم الإعجاب بالديناميكية الرائعة لشركات ونزهو على مستوى الأفراد والمؤسسات، فإن هناك حاجة ماسة لتعزيز الحضور الرسمي والمؤسسي لقادة المدينة وممثليهم في المحافل الدولية والفعاليات الاقتصادية الكبرى. إن التفاعل القوي والمنظم على المستوى الحكومي والتنظيمي يمكن أن يفتح آفاقاً أوسع ويزيل العقبات المحتملة ويسهل بناء جسور الثقة والتعاون، لتمكين شركات ونزهو بكفاءتها من الانخراط بشكل أكبر تأثيراً في سلاسل القيمة العالمية، وتوفير فرص حقيقية وموثوقة للنمو والشراكة مع مناطق مثل الشرق الأوسط. إن شركات ونزهو تستحق هذا الدعم الرسمي المعزز لتسهيل انخراطها الأكبر والأكثر تأثيراً.

بالنسبة لمنطقتنا في الشرق الأوسط، ونزهو تقدم درساً لا يقدر بثمن في قوة المبادرة الفردية والجماعية، وكيفية تحويل الموارد إلى فرص. إنها تطرح أسئلة جوهرية لصناع القرار حول مرونة نماذجنا الاقتصادية، والبيئة التي نوفرها لازدهار المهارات الريادية، وكيفية الاستفادة من قوة الشبكات غير الرسمية لدفع عجلة الاقتصاد. إن تشريح هذه الظاهرة الفريدة بشكل أعمق، مدعوماً بالبيانات والأرقام والتقارير الموثوقة التي تستحق البحث والتجميع، سيقدم مرآة نقيّة يمكن أن تساعدنا في إعادة التفكير في استراتيجياتنا التنموية والتجارية للمستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى