الصين: القوة الاستراتيجية التي يجب أن يتبعها العالم العربي

اجنادين نيوز / ANN

بقلم نجيب الكمالي،
رئيس دائرة العلاقات العامة بالاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين أصدقاء وحلفاء الصين، فرع اليمن

في عالم مليء بالتحديات، لا شيء يعبر عن الذكاء الاستراتيجي بقدر الصين اليوم. من “مصنع العالم” إلى القوة العالمية المبدعة، أصبحت الصين أحد أكبر اللاعبين في الاقتصاد العالمي، ليس بسبب قوتها العسكرية فحسب، بل لأنها تمتلك خطة واضحة ومتكاملة تغطي كل جانب من جوانب التنمية. فما الذي جعل الصين تحقق هذا التحول الجذري؟ وكيف يمكن للعالم العربي أن يستفيد من هذا النموذج الفريد؟

في سنوات قليلة فقط، تحول الاقتصاد الصيني من الاعتماد على الصناعات التقليدية إلى ابتكار التقنيات الحديثة التي تُغير العالم. عبر استراتيجية “صنع في الصين 2025″، وضعت الصين لنفسها هدفًا طموحًا بأن تصبح رائدة عالميًا في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي، الروبوتات، والطاقة المتجددة. اليوم، هي على أعتاب التفوق التكنولوجي، حيث تُحقق أرقامًا قياسية في براءات الاختراع والابتكار التكنولوجي.

الصين لم تكتفِ بأن تكون أكبر مصنع في العالم، بل أصبحت مركزًا عالميًا للابتكار. كيف؟ من خلال استثمارات ضخمة في البحث والتطوير في القطاعات الحاسمة التي تحدد مستقبل البشرية. اليوم، تُعَد الصين أكبر مصدر للتقنيات المستقبلية، والعديد من الشركات الصينية الكبرى مثل هواوي وتينسنت تُعتبر اليوم من عمالقة الصناعة التكنولوجية.

لكن نجاح الصين لا يعتمد فقط على القوة الاقتصادية والتكنولوجية، بل أيضًا على القوة الناعمة. معاهد كونفوشيوس، التي تنتشر في أكثر من 500 مركز عالمي، لا تعلم اللغة الصينية فحسب، بل تقدم صورة حضارية منفتحة، تبني جسورًا مع النخب العالمية. وفي الوقت نفسه، أصبحت منصات التواصل مثل تيك توك أكثر من مجرد أداة ترفيهية، بل سفارة رقمية تمثل قوة ناعمة تُشّكل صورة الصين لدى الشباب في كل زاوية من العالم.

إذا كان هناك شيء يميز الصين عن باقي الدول في العالم، فهو التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد. في وقت لا تزال فيه العديد من الدول تركز على النتائج قصيرة الأجل، ترى الصين نفسها على المدى البعيد. فمشروع “الحزام والطريق” هو إعادة تشكيل لتدفقات التجارة العالمية، وجسر يمتد عبر آسيا وأوروبا وأفريقيا. هذا المشروع لا يقتصر على بناء الطرق والموانئ، بل هو تغيير في قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية.

من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية، أصبحت الصين قادرة على تعزيز نفوذها العالمي. اليوم، يتم إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا لصالح الصين، في حين تنمو قدرتها على تشكيل السياسات العالمية.

ورغم كل هذه النجاحات، فإن الصين ليست خالية من التحديات. من جهة، الضغط الأمريكي على الشركات الصينية مثل هواوي، والذي يهدف إلى الحد من نفوذها في أسواق التكنولوجيا العالمية. من جهة أخرى، تواجه الصين مشاكل داخلية مثل شيخوخة السكان والديون في بعض القطاعات. لكن الصين تتعلم من هذه التحديات وتستخدمها كمحفز لتطوير استراتيجيات مرنة.

إذا كان هناك درس يمكن أن يتعلمه العالم العربي من الصين، فهو أهمية التخطيط طويل الأمد ورؤية المستقبل. يجب أن نضع خطط استراتيجية طويلة الأجل ترتكز على الأهداف الوطنية الطموحة. الصين تعلمنا أيضًا أن الاستثمار في العقول هو الطريق نحو الابتكار المستدام. فعلى الدول العربية أن تُركّز على التعليم والبحث العلمي، لأن العقول المبدعة هي التي ستقودنا نحو المستقبل. كما أن الانفتاح الانتقائي، الذي يجذب التكنولوجيا والخبرة العالمية دون التفريط في السيادة الوطنية، يجب أن يكون أحد أولوياتنا في تعزيز النمو الاقتصادي.

العالم العربي يمتلك موارد استراتيجية و موقعًا جغرافيًا حيويًا يمكن تحويله إلى مراكز لوجستية عالمية. مثال على ذلك، مبادرات الطاقة المتجددة في دول مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية، حيث استثمارات ضخمة في مشاريع الطاقة الشمسية تهدف إلى تحقيق الاستدامة البيئية وتطوير تكنولوجيا الطاقة المتجددة. مشروع مدينة نيوم في السعودية هو أيضًا مثال آخر على كيفية تطوير بنية تحتية اقتصادية ذكية باستخدام التكنولوجيا الحديثة.

كما أن مشروع قناة السويس الجديدة يمثل خطوة هامة في تعزيز التجارة البحرية، حيث استفادت مصر من موقعها الجغرافي الاستراتيجي لتحويله إلى ممر لوجستي عالمي. يمكن للمنطقة العربية أن تبني على هذه المشاريع لتحقيق نمو اقتصادي مستدام يعزز السيادة الوطنية ويُسهم في تعزيز النفوذ الإقليمي.

الصين لم تصبح القوة التي هي عليه اليوم بين عشية وضحاها، بل بفضل استراتيجية شاملة ومتكاملة استطاعت استغلال كل الفرص التي أتيحت لها. إذا كان لدينا الإرادة للتغيير، فإننا قادرون على الاستفادة من هذه الدروس لبناء مستقبل اقتصادي مستدام يعزز السيادة الوطنية ويُسهم في تعزيز النفوذ الإقليمي.

زر الذهاب إلى الأعلى