بلادٌ تنبض بالنظام: حديثٌ عن الصين التي لا تشبه أحدًا

اجنادين نيوز / ANN

بقلم: نجيب الكمالي – رئيس منبر “صحفيون من أجل فلسطين” ورئيس دائرة العلاقات العامة بالاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين أصدقاء وحلفاء الصين

حكى لي صديقٌ عاد من الصين، وهو ما يزال يحمل في صوته نبرة الدهشة، وفي عينيه بريق الإعجاب. كان يتحدث وكأنه لم يغادر تلك البلاد بعد، وكأن الصين تسكن في ذاكرته بتفاصيلها المذهلة التي يصعب على اللسان وصفها. قال لي بهدوءٍ متأمل إن الصين ليست بلداً فحسب، إنها فكرة تمشي على الأرض، تُثبت أن الإرادة يمكن أن تتحول إلى حضارة، وأن النظام يمكن أن يصبح أسلوب حياة. سكت قليلًا، ثم أضاف بابتسامة واثقة أن في كل زاوية هناك رسالة، وفي كل وجهٍ صيني ترى معنى جديدًا للعمل، والناس لا يرفعون أصواتهم، لا يتدافعون، لا يتحدثون كثيرًا، لكنهم يعملون كثيرًا بصمتٍ يشبه لغة أخرى لا يفهمها إلا من رأى بعينيه. كنت أتابع حديثه بانتباه، أحاول أن أتخيل كيف يمكن لبلدٍ يسكنه أكثر من مليار نسمة أن يعيش بهذا القدر من الانسجام، فقال لي إن الزحام هناك لا يعني الفوضى، بل يعني الحياة، وفي شوارع شنغهاي وبكين وقوانغتشو ترى ملايين البشر يتحركون بتناغمٍ مذهل، كأنهم أوركسترا ضخمة تُدار بإيقاعٍ داخلي لا يحتاج إلى قائد، لا صراخ، لا ارتباك، لا جدال، فقط انسياب منظم يجعل من الفوضى نظامًا ومن الزحمة جمالًا. ثم تنهد وقال مبتسمًا إنه أدهشه كيف يعرف الناس متى يتحدثون ومتى يصمتون، فالصمت هناك ليس خوفًا، بل انضباطًا واحترامًا للمكان والزمان، وكل شيء محسوب بدقة: القطار لا يتأخر، الطالب لا يغيب، والعامل لا يتذمر، كأنهم اتفقوا جميعًا على أن النجاح لا يأتي بالصدفة، بل بالالتزام. أخبرني عن القرى التي لم تنسَ رائحة الماضي، وعن المدن التي تشق طريقها نحو المستقبل بسرعةٍ مذهلة، وقال إن الصين تمشي إلى الغد بخطى ثابتة لكنها لا تدوس على ماضيها، ففي الأسواق الشعبية ما زالت رائحة الشاي التقليدي تعبق في الهواء، وفي الأحياء القديمة ترى المسنين يمارسون التاي تشي بهدوء الصباح، أما في المدن الكبرى فالتكنولوجيا تلامس كل شيء، من المصانع الذكية إلى الحافلات ذاتية القيادة. ثم صمت قليلًا وهو يتأمل، قبل أن يضيف أن أكثر ما شدّه ليس تطورهم المادي فقط، بل وعيهم الجماعي، فكل فرد يشعر أنه جزء من صورة أكبر، وأن مسؤوليته الصغيرة هي ما يصنع النجاح الكبير، ولم يرَ في وجوههم التذمر، بل رأى في عيونهم تصميمًا ورضا، وهناك لا أحد ينتظر أن تُبنى البلاد من فوق، لأن الجميع يبنيها من موقعه. كان صديقي يتحدث بإحساسٍ يشبه الاعتراف، ثم ختم حديثه قائلاً إن هكذا تُبنى الأوطان، حين يؤمن الناس بأن الانضباط والجهد هما الطريق إلى الازدهار، لا الشعارات ولا الخطب. الصين، كما وصفها، ليست مجرد دولةٍ صاعدة اقتصاديًا، بل تجربة إنسانية فريدة في تحويل العمل إلى قيمة، والنظام إلى ثقافة، والاحترام إلى أسلوب حياة، وهي بلد يعلّمك أن الحلم لا يصنعه الكلام، بل تصنعه الأيدي التي تعمل بصمت، والعقول التي تؤمن بأن الوقت هو رأس المال الحقيقي. لقد فهمت من حديثه أن الصين لم تنتصر فقط بالتقنية والعدد، بل بالإيمان الجمعي بأن كل دقيقة لها وزن، وكل جهدٍ صغير هو لبنة في صرح الوطن، وهناك يتحدث الناس بلغة العمل، ويبتسمون بثقة الذين يعرفون إلى أين يسيرون. حين انتهى صديقي من حديثه، نظرت إليه بإعجابٍ وقلت إن أعظم ما فعلته الصين هو أنها جعلت من النظام فنًا، ومن الصمت لغة، ومن العمل عبادة، فابتسم وقال نعم يا نجيب، هناك تتعلم أن النهضة لا تحتاج ضجيجًا، بل تحتاج إرادة. الصين ليست مكانًا يُزار فحسب، بل درسًا يُتعلّم، ورسالةً إلى العالم تقول إن الأوطان لا تُبنى بالكلمات، بل بالانضباط، بالجهد، وبالإيمان الهادئ بأن الغد دائمًا يستحق التعب.

زر الذهاب إلى الأعلى