التّوافق الصيني الروسي على السّاحة الدّولية وتغيير نمط النّظام العالمي.

اجنادين نيوز  / ANN

بقلم الصحفي السوري سامر كامل فاضل.
صديق الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتاب العرب اصدقاء وحلفاء الصين.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكُّكه في آب من عام 1991، ظهرت روسيا الاتحادية حاملةً الإرث الأكبر للاتحاد السوفيتي على المستوى الدولي، والتي سرعان ما واجهت حصاراً غربيّاً على كافة المستويات،
حدَّ من إنخراطها مع الجارة الأوروبية، كما عانت تطويقاً ممنهجاً وعدم احترام لمصالحها الأمنيّة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي مارست عليها سياسة الاحتواء والتطويق مع بداية ظهور العولمة، لكنّ روسيا رفضت هذه الممارسات الأمريكية والتدخّل في شؤونها الداخلية بحجّة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
بدأت روسيا مشوار الصّعود من وطأة الظروف الجديدة والمعقّدة لانفراط عقد الاتحاد السوفيتي بآليّةٍ مدروسةٍ اعتمدت فيها مبدأً براغماتيّاً انطلق من سياسةٍ متوازنةٍ بين ما تطمح إليه كبلدٍ يريد استعادة موقع وأَلَق الاتحاد السوفيتي السابق على الصّعيد الدّولي وبين الإمكانيات المتاحة لذلك، متنبّهةً إلى مفرزاتِ انتهاء الحرب الباردة،
ومنها اشتداد عصب الاتحاد الأوروبي بعد إعلانه الاتحاد وتوحيد العملة إلى حصول الأزمة الماليّة العالميّة وتطوّر الإرهاب في العالم والترويج لصراع الحضارات.
وكان ذلك كافياً لنشوء التوافق الروسي الصيني لإعادة هيكلة الخريطة الأمنيّة الماليّة الدّوليّة في العالم الجديد، منطلقاً من أرضيّةٍ صلبةٍ في جميع المجالات ومرتكزاً على
المقدّرات الروسية الهائلة لمواد الطاقة، وعلى القدرة الاقتصاديّة الصينيّة المتصاعدة وحاجتها لهذه الطاقة.
لا شكَّ في أنَّ هذا التوافقَ بين الصين و روسيا نشأ في سياق وعيٍ  عالميٍّ  لخطورة التفرّد الأمريكي بالهيمنة على السياسات الدّوليّة و قابليّة هذا التفرّد لمغامرات عسكريّة وفق الفكر الاستنسابي في فهم الحريّة والديمقراطية وحقوق
الإنسان وتفسيره الخاص للإرهاب على مقاييس المصالح الأميركية.
أما الصّين ومن خلال هذا التوافق، فقد عملت على تحقيق توازنٍ بين نموِّها الاقتصادي والقدرة العسكرية على حماية هذا الاقتصاد وتأمين موادِّه الأوليّة، فكان التوافق الصيني الاستراتيجي مع روسيا خلُصَ إلى التعاون في المجال العسكري بشراء
كميّاتٍ  كبيرةٍ  من الأسلحة والسّفن والغوّاصات والتكنولوجيا العسكريّة المتطوّرة، لمنع أيِّ حصارٍ بحريٍّ  عليها، وحماية خطوط المواصلات البحرية لتأمين إمدادات الطّاقة لها من الشرق الأوسط وإفريقيا.
كلُّ ذلك أدّى إلى تعزيز مكانة الصّين دوليّاً وتحسين شروطها للتفاوض آنذاك حول السّيادة على بعض الجزر المتنازع عليها
مع اليابان والفلبّين وفيتنام.
ومن هنا نجد أنَّ المقوِّمات الأساسيّة للتوافق الصيني الروسي مبنيّةٌ على مصالحَ اقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ تمَّ إسقاطها على مختلف المجالات التي تحقق مصالح البلدين، وتدعم قوتهما أمام الولايات المتحدة الأمريكية، التي استباحت السّاحة الدّوليّة في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور روسيا
بالصّورة الأضعف عمّا كان عليه الاتحاد السوفيتي كقطبٍ في وجه أمريكا، والصين التي كانت في بداية نهضتها الاقتصاديّة والتي ترى في نفسها المؤهّلة الأولى لتكون القوّة العظمى اقتصاديّاً.
لذلك لم يقتصرالتعاونَ الصيني الروسي على حجم التبادل التجاري بين البلدين، بل كان هناكَ تكاملاً مدروساً لإصلاح النظام النقدي العالمي الذي
تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية في جميع التحويلات المصرفيّة العالميّة، فلجأ البلدان إلى خلق مؤسسات رديفة للبنك الدّولي وصندوق النقد الدّولي، وتغيير السياسة الماليّة العالميّة التي كانت معتَمدةً سابقاً ومفروضة من الأمريكيين، واعتمد البلدان على دول مجموعة البريكس للمساعدة في تغيير نمط السلوك المالي العالمي وعلى
بعض الدول التي تملك اقتصاديات كبيرة مثل إيران، وكخطوةٍ أولى لهذه الاستراتيجيّة الجديدة، جرى التعامل باليوان الصيني والروبل الروسي في أسواق المصارف ومؤسّسات الصّيرفة لتسوية المبادلات التجاريّة الثنائيّة في خروجٍ واضحٍ عن النمط القديم الذي سيطر فيه الدولار على كافّة المنصّات الماليّة الدّوليّة.
وقد استمرّ هذا التعاون والتنسيق بين الصين و روسيا إلى أن أثمرَ عام 2001 عن توقيع معاهدة الصداقة الصينية الروسية التي عُقدت في موسكو وجسّدت نظرةَ البلدين كقوتين نوويتين لشكل النّظام العالمي الجديد، مرتكزةً على أسس محافظة الطّرفين على سيادة أرض كلٍ منهما و أمنها و وحدتها، وتَطلُّع الدولتين إلى عالمٍ متعدّد
الأقطاب حفاظاً على استقرار النّظام الدّولي وبعيداً عن هيمنة القطب الواحد المتمثّل في الولايات المتحدة الأمريكية واستخدامها للمعايير المزدوجة في التعامل مع الدول، ونصّت المعاهدة على تعزيز الدّور المركزي للأمم المتّحدة في حل النزاعات وعدم استعمال القوّة العسكريّة خارج قرارت مجلس الأمن الدّولي.
فكان لهذا التعاون الصيني
الروسي الدّور الأساسي في ولادة حقبة دوليّة جديدة متعدّدة الأقطاب، استفادت منها بشكل أساسي الدّول النّامية، وخاصّةً دول الشرق الأوسط، التي أيقنت بتعدّد مراكز صنع القرار على السّاحة الدّوليّة، وكانت باكورة هذه التغيّرات اقتناع  روسيا والصين بضرورة مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية في أزمة إيران النوويّة وإبعاد شبح
الحرب عن المنطقة والحفاظ على السلم العالمي، وكان ذلك
باستخدام حق النّقض الفيتو في مجلس الأمن لمنع استخدام القوّة العسكريّة و التمسّك بالحل التفاوضي مع إيران كسبيلٍ وحيدٍ لحل الأزمة، كما انسحب ذلك على الموقف المشترك للدّولتين من الأزمة السّوريّة باستخدام حق النقض الفيتو مرّةً أخرى في مجلس الأمن الدولي منعاً
لاستخدام القوة العسكرية في سوريا، فكان في ذلك تكريس لمبدأ سيادة الدول وعدم القبول بالتدخّل الخارجي في شؤونها الداخلية، ورفض السياسة الأمريكية المعتمَدة في تغيير الأنظمة السياسية للدّول بالقوّة العسكرية بحجّة فرض الديمقراطية وحقوق الإنسان.
و يمكننا أنْ نسمّي هذا التوافق الصيني الروسي بتوافق
الضّرورة الذي أسّس لنظرةٍ جديدةٍ للعالم تعتمد على فهم مصالح كل دولةٍ تحقيقاً للسلام العالمي مستقبلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى